| هل المبدعون والمفكرون مخطئون حين يظنون أن إبداعهم وفكرهم وحدهما سيجعلان منهم معالم إنسانية يشار إليها بالبنان، وهل هم مخطئون حين يؤمنون أن الطريق نحو الشهرة والمجد مرهون فقط بعطاء متميز؟ وهل هم مخطئون حين يصرون بشدة على أن يأتي الآخرون إليهم ولا يذهبون هم إلى الآخرين من باب أن صاحب العلم يؤتى إليه ولا يذهب هو إلى أحد؟
الإجابة عن هذه الأسئلة سهلة وممتنعة·· فكل صاحب فكر حقيقي على أعلى درجات الحساسية والكبرياء وعزة النفس، ومن الصعب عليه أن يتكسب بإبداعه وفكره أو أن يريق ماء وجهه من أجل حفنة مال أو كرسي مصيره إلى الزوال·· ولكن هل معنى هذا أن لا يجد لنفسه موطىء قدم على أرضه وفي ملعبه كما يقول أهل الرياضة؟ وهل يخرج على الرغم من أنفه· من لعبة صنع القرار ورسم صورة المستقبل؟
لماذا يغيب المبدعون والمفكرون الممتلئون بعقولهم ووجدانهم وضمائرهم الحقيقية في هندسة الحياة من حولهم لتبدو أكثر انسجاما وجمالا؟ هل أصابهم الجبن والخور والتعب فاستكانوا وألقوا بأسلحتهم وسلموا الراية وتركوا زمام الأمور لأصحاب الآفاق الضيقة والمصالح الآنية ليهندسوا الحياة على أهوائهم وأمزجتهم التي لا يعرف لها لون ولا طعم ولا رائحة سوى لون المنفعة وطعمها ورائحتها؟ هل أزعجتهم المناكفات السمجة التي يتلقونها من مروجي التفاهة ومناصريها فاستكبروا على أنفسهم الخوض في وحل لا تجففه أعلى درجات الحرارة؟ أم باتوا يخشون على أنفسهم وعيالهم ولقمة عيشهم خشية الكافر من عذاب القبر؟
كتب أحدهم يقول: "إن الشعوب العربية في حاضرها مفلسة إفلاسا لا مثيل له في زعامتها·· لا السياسية فقط بل بما هو شر من ذلك بكثير، إنها مفلسة في زعامتها الفكرية، وإذا كانت الأمة مفلسة في زعامتها الفكرية فمعنى ذلك أنها حتما مفلسة في زعامتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية أيضا، لأن الساسة في جميع العصور ليسوا سوى سيوف آراء المفكرين في أمتهم·· إنهم منفذو فلسفات المفكرين الاجتماعية والسياسية وسواهما"·
ما الذي حدث بعد أكثر من خمسين عاما لمفكري هذه الأمة المترعة بكأس الهزيمة يوما بعد يوم وبينهما استراحة المحارب الجريح؟ التاريخ يعيد نفسه - كما يقولون - وكل الأمم مرهونة بإعادة تاريخها، أو·· لنقل بصورة أدق إعادة صياغة تاريخها· ولكن إعادة كتابة النص - أي نص - لابد أن يعتريها تعديل أو حذف أو تغيير، والطبعة الثانية - في العادة - طبعة مزيدة ومنقحة، لكن الواقع يقول إن المفكرين والمبدعين الحقيقيين - في ممارسة أدوارهم التنويرية المفترضة - لم ينقحوا ولم يزيدوا ولم يعدلوا، وتركوا تدبير الأمر - طائعين أو كارهين أو مجانبين الوقوع في الشبهات - لأشباه المفكرين والمبدعين الذين باتوا كالدولار المزيف الذي يعميك اسمه عن تمييز جسمه، متعللين أن الدر يكمن في أعماق البحر فيما الجيف وحدها تطفو على السطح، ولكن·· نسي حضرات المفكرين والمبدعين - أو تناسوا - أن تلك الجيف المتعفنة لن يطول زمان بقائها على سطح البحر، وأن التيار سيجرفها ذات يوم ليلقيها على الشاطىء لتتحلل، وتدفن في أسفل سافلين، فالبحر ! واهب اللؤلؤ والمحار - لا يهب الردى (مع الاعتذار للسياب)، ولا قيمة للدر المدفون في أعماقه إلا إذا خرج للنور ورآه الناس رأي العين·· فهلا نفضوا عن أفئدتهم غبار الحزن، وتوقفوا عن استحضار التراث بصوت الأسى والفجيعة والنواح على الماضي والحاضر والمستقبل ليسير معهم وبهم المبدعون والمفكرون الجدد الذين لا تزال تجربتهم غضة وتنقصهم خبرة الحياة لتلتقي حكمة الشيوخ وحماسة الشباب في رسم صورة مستقبل فيه الكثير من الأمل والقليل من الألم!
* كاتب كويتي |
