يبدو أننا مهما كتبنا عما يحدث في مدارسنا سيظل الكلام قاصرًا عن التعبير عن الواقع المبكي الذي تضمه فصولها وساحاتها· لن أذكر الكثير من التفاصيل، وسأدخل مباشرة في صلب الموضوع الذي استفزني للكتابة هذا الأسبوع، وهو يحتاج -في رأيي- إلى عدة مقالات، لكني سأحاول أن أوجز ما أود قوله فيه في هذه السطور، بقدر ما يتيسر لي من الاختصار·
في نهاية الأسبوع الماضي طرق بابَ غرفتي أصغرُ إخوتي -الطالب في المرحلة الثانوية-، وأخبرني وهو واقف على الباب، -وهذا يدلّ على أن الموضوع في رأيه أبسط من أن يحتاج للدخول والجلوس ثم الكلام في الموضوع- أن الأستاذ طلب منه تقديم بحث عن (الحضارة الإسلامية)، فسألته: عن أي شيء في الحضارة الإسلامية تحديدًا؟ فقال: أي شيء، أو كل شيء، لا يهم·· الأستاذ طلب منا أن نقدم له بحثًا عن هذا الموضوع ولم يقل شيئا آخر· عدتُ وسألتُه مرة أخرى إن كان الأستاذ قد علّمهم طريقة كتابة البحث العلمي قبل أن يطالبهم بكتابته، فأجاب بالنفي، وأضاف قائلا: لقد طلب منّا أن ندخل على موقع محرك البحث (جوجل)، وأن نضع في شريط البحث كلمتي (الحضارة الإسلامية)، ثم نختار من مجموعة النتائج التي ستظهر مقالة أو دراسة واحدة، ونقدمها له وسيعطينا عليها درجة البحث! تجدر الإشارة إلى أن أخي كان قد طرق باب غرفتي ليطلب مني أن أقوم له بذلك المطلوب!
للقارئ أن يتخيل وقع هذه الكلمات -التي كان أخي الصغير ينطقها ببساطة شديدة- على نفسي، وأنا واحدة من أولئك الذين يرددون على مسامع الطلبة والطالبات صباح مساء مختلف النصائح التي تصبّ في أهمية إتقان مهارات كتابة البحث العلمي، وضرورة التحلي بالأمانة العلمية، ونسبة الفضل لأهله، وعدم استسهال أخذ درجة واحدة بمجهود أشخاص آخرين، وما شابه ذلك من نصائح نشعر من ملامح الطلبة والطالبات أنهم يسمعونها للمرة الأولى، أو على الأقل نادرًا ما تمرّ على مسامعهم·
إذا كان واقع التعليم العام عندنا لا يشجع الطالب على البحث، ويسهّل له طرق أخذ الدرجات دون بذل جهد حقيقي يوازي الدرجة التي ينالها، بل ويوجهه إلى أسرع الطرق وأسهلها للوصول إلى ذلك من خلال الأستاذ الذي يمثل ركيزة أساسية في العملية التعليمية، أقول إذا كان هذا واقع التعليم عندنا، فعلي ألا أستغرب من تلك الملامح التي تمثل أمامي في قاعات الحرم الجامعي، وهي تشعر بأنني ألقي على مسامعها قولا ثقيلا، مخالفًا لكل ما ألفته وما شبّت عليه طوال اثنتي عشرة سنة دراسية·
هل يمكن أن يتحول الأستاذ والمعلم إلى شخص يبثّ الجهل فيما -وفيمن- حوله؟ وهل أصبح التعليم هو توجيه الطلبة نحو سرقة جهود الآخرين علنًا؟ وهل هذه هي الطريقة التي ستنشئ بيننا الباحثين والعلماء في شتى العلوم والمعارف؟
نحن نطالب ونعمل على تطوير المناهج، ونسهر على ذلك ليلنا، ونكدّ في سبيله طوال نهارنا، في حين إن في مدارسنا مدرسين لهم عقول في حاجة للتطوير، أو للتغيير الكلي، بأن يتم استبدالها بغيرها دون أن تأخذنا بهم رأفة ولا رحمة·
وإذا كان بعض المدرسين قد نسوا الدور التعليمي المنوط بهم، فعليهم ألا ينسوا الدور التربوي والدور الأخلاقي اللذين يجب عليهم أن يؤدوهما بأمانة وحرص شديدين، أكثر من حرصهم على أداء دورهم التعليمي؛ فالعلوم والمعارف يمكن أن يحصل عليها الطالب من الكتب مباشرة دون الحاجة إلى الأستاذ، لكن غرس أسس التربية وفضائل الأخلاق في النفوس الغضّة لا يمكن أن يتم من خلال الكتب، ولن يستطيع طالب أن يتكسب الأخلاق بمجرد القراءة عنها، لأنها من الأمور التي تحتاج إلى معايشة حقيقية لاكتسابها، والمعلم لديه فرصة أكبر من غيره، وربما أكثر من الوالدين، لتسريب كل هذه الأمور إلى شريحة كبيرة من الطلاب، سواء سلبًا أو إيجابًا·
ما الذي نتوقعه من أجيال تنشأ معتادة على الكسل، آلفة للوصول إلى أعلى الدرجات مع بذل أقل جهد ممكن، أو دون بذل جهد حتى؟ وما الذي نرجوه من أجيال تنشأ على استمراء سرقة جهود الآخرين، بمباركة وتوجيه من الأستاذ الذي يجب أن يكون قدوة حسنة لطلابه؟ والسؤال الأهم في كل هذا هو: كيف نأمن لمثل هذا النوع من المعلمين على أبنائنا الطلبة؟ وما الذي يضمن لنا أنه يعلمهم المادة الموكلة إليه بأمانة وجدّية، وهو المفتقر إلى الأمانة في تكليفاته لطلابه؟
أسئلة كثيرة أثارها في ذهني حواري السريع مع أخي الصغير، وهو واقف على باب غرفتي، وقبل أن يذهب ويتركني في حيرتي استوقفته وسألته: هل توافق على أن تحصل على درجة ليست من حقك، لأنك تنالها بمجهود غيرك؟ فقال لي ببساطته المعهودة في الكلام: الجميع يفعل هذا، فقلت له: وهل ترضى أن تكون واحدًا من الجميع حتى إن كانوا على خطأ؟ فأجاب: وماذا أستطيع أن أفعل غير ذلك؟ فقلت له: تتعلم كيفية كتابة البحث العلمي، وبدأت في حماسة أذكر له الخطوات الأساسية في كتابة البحث العلمي، وهو يستمع بلا مبالاة واضحة جدًا، لكنه انتظر -كأي أخ صغير مهذب لن يترك أخته الكبرى تتكلم ويمضي ذاهبًا- حتى انتهيتُ من كلامي، ثم علّق وهو ذاهب بهيئة الفارّ بنفسه من إحدى المصائب: أظن أنني فهمتُ شيئًا مما قلته، واستأذنني وذهب، تاركًا لي كل هذه الأسئلة التي دارت في ذهني، ولم أجد لها إجابات عندي·
إذا كان المطلوب من المعلمين أن يكلفوا طلابهم بكتابة أبحاث علمية، أليس من الأولى التحقق من تمكن المعلمين أنفسهم من هذه المهارة؟ والتأكد من قدرتهم معلمًا معلمًا على كتابة بحث علمي حقيقي قبل أن نطلب منهم تكليف الطلاب بما لا يعرفون أبجدياته؟ هذا أقل ما يجب على وزارة التربية أن تفعله إن أرادت أن يظهر في المجتمع الإماراتي باحثون حقيقيون ضمن أفراد الأجيال المقبلة·
*جامعة الإمارات
sunono@yahoo.com |