| بعكس ما توقع "صاموئيل هنتنغتون" فإن التاريخ لم يشرف بعد على النهاية، بل على العكس من ذلك تماما، فهو - أي التاريخ - مقبل على بداية جديدة، ونسخة مختلفة للصراع عن النسخة التي سادت في القرن الماضي، ويبدو أن "صاموئيل هنتنغتون" أراد أن يراجع بعضا مما ذكره في كتابه الشهير "نهاية التاريخ" وذلك من خلال كتاب صدر له حديثا بعنوان "من نحن" حيث يركز "هنتنغتون" على إعادة تثبيت وتأسيس الثقافة الأنجلو - بروتستانية في أمريكا بعد أن أصبحت الهوية القومية تواجه في العمق، ويبرر الكاتب الطموحات السياسية للرئيس "بوش" بنقل القيم والمبادئ الثقافية للولايات المتحدة الى بقع كثيرة من العالم بقوله: "إن الشخصية التي يتميز بها الوضع الدولي اليوم مع صعود الجهاد الإسلامي، تتلاءم مع تشديده - أي الكاتب - على المنحى الثقافي"، ويرى أن العداوة الإسلامية تشجع الأمريكيين على تحديد هويتهم على المستويين الديني والثقافي تماما كما كان من شأن الحرب الباردة أن تشدد على الناحية السياسية للهوية الأمريكية·
ويكرر "صاموئيل هنتنغتون" في كتابه هذا أنه لا يكفي أن يدرك الأمريكيون فقط أنهم مسيحيون وليسوا مسلمين أو بوذيين·· بل أن يرغبوا في أن يكونوا كذلك·
يعتبر كتاب "هنتنغتون" هذا صورة من الكتب التي أصبحت منتشرة في كل الثقافات وليس في أمريكا وحدها·· وهي كتب تروج لصورة الصراع الجديد الذي سيكون هو السائد في المرحلة المقبلة من التاريخ البشري·
في يوم السادس والعشرين من يناير 1991 زالت أول امبراطورية شيوعية في التاريخ، ودخل العالم بذلك مرحلة جديدة من الصراع كانت بارزة وبوضوح في تفكك يوغسلافيا، وتحللها الى طوائف وأعراق متعددة، ولتقدم يوغسلافيا بذلك نموذجا جديدا لطبيعة الصراع وهوية الحروب التي ستسود فيما بعد·
لقد شهد العالم ومنذ الحرب الأولى مئة واثنين وعشرين حربا راح ضحيتها اثنان وعشرون مليون إنسان، وقد غلب على معظم تلك الحروب الصراع الأيديولوجي البحت، وسادت العالم ديكتاتوريات علمانية لا مكان للدين ولا للعقيدة في أجندتها أو استراتيجيتها فمن ستالين في روسيا·· الى موسوليني في إيطاليا، وهتلر في ألمانيا، لكن هذا الواقع تحول مع انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك جمهورياته وتحللها الى أعراق وطوائف متباينة، لتعود الحروب من جديد الى صورتها القديمة والتي كانت سائدة في القرون السابقة حيث اتخذت الحروب آنذاك سمة الصراع الديني والعقائدي وأيضا العرق·
إذاً يعود التاريخ من جديد ليسطر حقبة جديدة من الصراع البشري، تتشابه فيها دوافع وأهداف المتصارعين، وإن اختلفت الأدوات في أحيان كثيرة وذلك حين يسعى المتصارعون الى تغليف دوافع الحرب والصراع بغلاف فكري أو أيديولوجي يتلاءم مع روح العصر الحديث، ففي الولايات المتحدة الأمريكية تتحكم العقيدة "الافانجلكية" في قرارات وأدوات الحرب، تماما كما تتحكم نزعة الجهاد والشهادة في الإسلام بقرارات أسامة بن لادن، أما في إسرائيل فإن شارون يستمد تصاريح إبادة الفلسطينيين من التوراة والتلمود·
لم تصدق إذا توقعات "العرافين" السياسيين بشأن نهاية الحروب وسيادة السلام مع سقوط الاتحاد السوفييتي، ونهاية ثنائية الصراع، بل على العكس من ذلك تماما فقد زادت الحروب وأصبحت أكثر شراسة وعنفا، شأنها في ذلك شأن كل الصراعات الدينية عبر التاريخ، لكن ما يضاعف من خطورة حروب الأديان في الألفية الثالثة أن التكنولوجيا قد تفننت في صناعة أسلحة دمار وإبادة قادرة على ترجيح كفة المجتمعات الغنية والمتقدمة في كل الصراعات الدائرة، لكنها لا تحسمها، لأن الصراع العقائدي يعني صراعا أطول وليس صراعا أشرس وحسب، لقد ترجم إذا "صاموئيل هنتنغتون" في كتابه الجديد فلسفة حروب الألفية الثالثة·
حين أعلن بأن الثقافة لا القيم هي التي يجب أن تفعل لحماية أمريكا من التفكك ومن المخاطر، وهي الفلسفة نفسها التي ينتهجها "بن لادن" و"شارون"·· فلسفة توظيف العقيدة في إدارة الحروب والصراعات·
suad.m@taleea.com |
