كليلة ودمنة كتاب يحوي مجموعة قصص تمتلئ بالحكم والمواعظ، وضعه حكماء الهند ونقله إلى الفارسية "برزويه" الطبيب بطلب من كسرى أنو شروان، ملك الفرس، ثم ترجمه من الفارسية إلى العربية ابن المقفع في750  ميلادية تقريبا، والملاحظ في الكتاب أنه يطرح في ثناياه مشكلات الدين والأخلاق والسياسة والحلول لها بشكل لا يختلف جوهرياً عما يطرحه المفكرون السياسيون المحدثون الذين يرون أن هناك قيماً مشتركة تلتقي حولها الأديان تتلخص في خلق حياة فاضلة· وللأسف فإن تلك القيم المشتركة - وهي قيم سامية - لا تظهر في هذا الوقت حيث ازدهار الفكر الأصولي في جميع الأديان الكبرى، إذ نرى أصولية يهودية ومسيحية وإسلامية وهندوسية وغيرها، وبطبيعة الفكر الأصولي - أياً  كان - فإنه يركز على الخصوصية الدينية أكثر من تركيزه على المبادئ والقيم التي تتشارك بها الأديان قاطبة، وهذه النزعة تسبب الصراع والشقاق خاصة إذا كان أبناء الأمة الواحدة ينتمون إلى ديانات شتى أو بالتعبير القديم إلى ملل ونحل كثيرة·

يتلمس "برزويه" مترجم كليلة ودمنة الفارسي هذه الظاهرة، حيث لم يجد في كتب الطب التي بحوزته - وهو أبو الطب الفارسي - ذكراً للأديان تدله على "أهداها وأصوبها"· ورأى أن أصحاب الملل مختلفون "كلهم يزعم أنه على صواب وهدى، وأن من خالفه على خطأ وضلالة"· وبعد بحث وتمحيص، يقول "برزويه": "فاستبان لي أنهم بالهوى يجيبون ويتكلمون، لا بالعدل، ولم أجد عند أحد منهم صفة تكون عدلاً يعرفها ذو العقل ويرضى بها"، وبعد تفكير وتردد طويل يتوصل "برزويه"  إلى مبادئ عامة تصلح أن تكون قيماً للحياة الصالحة لا تختلف عما تطرحه الأديان، فقد آمن أن يقتصر فعله على "كل شيء تشهد العقول أنه بر، ويتفق عليه كل أهل الأديان"· يقول: "فكففت يدي عن الضرب والقتل والسرقة والخيانة، ونفسي عن الغضب، ولساني عن الكذب وعن كل كلام فيه ضرر لأحد، وكففت عن أذى الناس والغيبة والبهتان·· إلخ"·

برزويه هذا توصل إلى ما توصل إليه المفكرون المحدثون من أن إيمان الفرد الداخلي يظل شيئاً شخصياً يكمن في وجدان الفرد، وما يهم المجتمع هو سلوك الفرد وتفاعله مع الآخرين، وهو سلوك يوجهه الدين وجدانياً وتنظمه القوانين الوضعية من الناحية الواقعية، وهذه القوانين لا تختلف في جوهرها عن القيم الإنسانية التي لا يمكن للحياة المدنية أن تسير من دونها·

alyusefi@taleea.com