تأتي سخريات القدر أو التاريخ أحيانا أغرب من الخيال حينما يتأمل المرء في سير وقصص بعض المستبدين فلربما لم يبتسم الحظ لدكتاتور من دكتاتوريي عصرنا الراهن سواء قبل انقضاضهم على السلطة أم خلال حكمهم أم بعد سقوطهم كما ابتسم لديكتاتور العراق صدام حسين·
قام بمحاولة اغتيال إرهابية فاشلة عام 1959 لزعيم ثورة 14 تموز العراقية عبدالكريم قاسم لكنه استطاع أن ينجو بجلده فارا من العراق، سجن في عهد عبدالسلام عارف ولم يبق في السجن سوى فترة قصيرة، نفذ سلسلة من التصفيات بحق رفاقه في قيادة الحزب قبل انقلابه على رفيقه الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر ثم غداة انفراده بالسلطة في أواخر السبعينات دون أن يناله أي مكروه في خضم كل هذه الصراعات الدموية على السلطة، كما فشلت كل محاولات اغتياله من خصومه سواء في السلطة أم خارجها·
غامر بالخوض عن سبق إصرار أرعن ومتهور في ثلاثة حروب مدمرة بالغة الخطورة وخرج من كل منها سليما معافى، الحرب على إيران (1980 - 1988)، غزو الكويت 1990، قبول تحدي أمريكا ومنازلتها منازلة غير متكافئة في هجومها على بلاده عام 2003·
وإذا سلم نظامه في الحربين الأولى والثانية في حين لم يسلم في الحرب الثالثة التي انتهت باحتلال بلاده فإنه تمكن من أن يفر بجلده مختبئا، لكن الحظ اتبسم له بأن وقع في قبضة الأمريكيين لا العراقيين، وبالطبع فقد كان للأولين حساباتهم في أن يبقى تحت قبضتهم سليما معافى فهو الذي كان من أقرب حلفائهم وتغطرس وتجبر وارتكب كل جرائمه بحق شعبه بفضل إما صمتهم المخزي وإما دعمهم المفضوح وهاهو اليوم يبتسم له الحظ مجددا حتى وهو تحت الأسر في سجنه تحت قبضة العراقيين، فما من سجين عراقي سواء تحت الاحتلال أم في عهدة الحكومة الانتقالية الحالية، وسواء أكان هذا السجين من رجالات النظام أم من المتورطين في قضايا أمنية تمتع بمزايا وامتيازات في سجنه كالتي يتمتع بها الآن صدام·
هكذا جاء آخر التقارير الغريبة الواردة عن أوضاعه ويومياته في السجن، ينظم الأشعار "تذكروا أن السفاح رادوفان كارادزيتش رئيس صرب البوسنة السابق كان يحب الموسيقى الكلاسيكية ويقرض الشعر أيضا"، يعتني بحديقته، يتلقى علاجا منتظما عن ضغط الدم والتهاب البروستاتا، يتناول وجبة إفطار كبيرة، يحصل على وجبات ساخنة مرتين في اليوم، يستحم بشكل منتظم، وله أن يطلب حلاقا وعطورا طاردة لرائحة العرق، يمارس بانتظام تمرينات رياضية داخل زنزانته المكيفة، ومن المفارقات التي لا تخلو من مغزى أن "صدام" الذي عرف عنه بإشهار العداء للثقافة ونمط الحياة الأمريكية بعدما تضاربت مصالحه مع أمريكا بدأ يفضل الأغذية الأمريكية على العربية داخل السجن ولديه مكتبة من مقتنيات الكتب والمجلات "150 كتابا" كما استطاع أن يراسل ابنته رغد المقيمة بالأردن·
ومن المؤكد أن كل من وقعت عيناه من ضحاياه الأحياء وذويهم على هذا التقرير الصحافي عن وضعه في السجن سيتفجر غضبا وهو يتابع قراءة سطور هذا التقرير·
ولو لم يبتسم الحظ له ووقع في أيدي أحد منهم لما بقي على قيد الحياة دقيقة واحدة في بلد يمتلك تاريخا طويلا من تقاليد الثأر والانتقام·
لكن هذا هو منطق ثقافة حقوق الإنسان والتسامح وما من سبيل سواء لمن أراد تبنيها والانخراط في طريقها الصعب الطويل فبدون التسامي على الجراح ومن دون البعد عن عقلية الثأر البهيمية لا تستطيع أن تؤسس لغد جديد جميل خال من الانتهاكات والاستبداد والقمع·
ولم ينل صدام كل هذه الامتيازات والحقوق في سجنه إلا بفضل شيوع وتطور ثقافة الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان العالمية التي تتمسك بها الدول المتحضرة كما المنظمات الإنسانية الدولية التي تراقب عن كثب مدى مصداقية الحكومة العراقية الموقتة الحالية تجاه تطبيق القيم في معاملتها له·
لكن "صدام" في عالمه الخاص المنفصل عن العالم ما زال يعتقد أنه رئيس العراق، لذلك فهو عاجز عن الاتعاظ من عبر هذه المعاملة الإنسانية التي يحظى بها في السجن لأنه يعتقد أنها منحت له بصفته رئيسا، بل وربما هنا بالضبط يكمن سر إصراره على وصف نفسه رئيس العراق، أمام قاضي التحقيق·
|