الإنسان أغلى ما يملكه الإنسان، وهو أكرم المخلوقات، وأقدس ما جاءت به الأديان، وأنبل ما بشرت به الثورات، وأجمل ما صوره الإبداع، وأهم وأرقى ما شرع له المشرعون، وأثمن ما تعاطاه الفكر في عصر الأنوار، وسيبقى القضية الأهم طالما الحياة باقية·
اجتهد المفكرون والفلاسفة وأجهدوا أنفسهم في سبيل تحقيق أرقى المعايير القانونية والأخلاقية في حقوق الإنسان وجاءت الأديان لتؤكد هذه الحقيقة وتسمو بها الى درجة التقديس، ومراحل التطبيق تاريخيا حتى عصرنا هذا شهد ألوانا متعددة فكان الارتقاء وكان التأرجح وكان الإلغاء الذي احتل المساحة الأوسع فيه والذي شوه الصورة الزاهية لهذا الناتج الفكري والأخلاقي وحوله الى صورة قاتمة تحمل في طياتها كثيرا من التجاوزات والتي وصلت لحد القطيعة مع الفكر بحجة المصلحة العليا للمجتمع·
ندرك جيدا بأن أي تنظير يحمل في عمقه شيئا من المثالية بل وقدرا معقولا من الرومانسية تعبر أصلا عن روح التفاؤل والمسؤولية لدى مؤلفه، وندرك أيضا أن التطبيق العملي لأي فكر يتطلب بعضا من التعديلات لكي يتلاءم مع الواقع وهذا مرده الى التنوع والاختلاف بين البشر لكي يصبح مقبولا في ظل تحقيق الشرط الإنساني للمجتمع، ولكن أن يأتي هذا التجاوز على حساب الفكر وعلى حساب مصداقيته فهذا بمثابة إعلان وفاة من دون تعزية، وكم من فكرة سقطت مضرجة من دون أي محاولة لإسعافها بل وبورك من أسقطها عندما تحولت من حل إلى أزمة وأصبحت كابوسا يجثم على صدر المجتمع نتيجة للسلوك القمعي الذي مورس على الناس باسمها، إذ لا يمكن أن تكون مصلحة الإنسان في إلغاء الإنسان·
الديمقراطية أرقى ما أنتجه الفكر الإنساني وأفضل تجربة أثبتت حقها في البقاء لأنها حملت الإنسان بيد والشفافية باليد الأخرى ولأنها الضامن الأهم لكرامة الإنسان وقيمته ولأنها أيضا الحارس الأكثر معقولية لشفافية الفكر ولسلامة التطبيق، ولكنها كأي حارس قد يستغفل وقد يحمل أخطاء الغير، ولكن سرعان ما تظهر الحقيقة وتعلن البراءة والديمقراطية كذلك فقد جملت منذ ولادتها وحتى الآن كثيرا من أخطاء التجارب السياسية التي حكمت باسمها أو التي وجدت كمرادف لها، فزالت أكثرها وبقيت هي المزيل الأكثر فاعلية لمخلفات القمع والاستبداد وهذا سر شبابها الدائم رغم عمرها المديد، وكلما تراكمت تجربة الإنسان ازدادت نضجا، وازدادت مقدرتها على تصحيح أخطائها من خلال زيادة جرعتها عند حدوثه·
محاولات التشويه لهذا المفهوم الحضاري ما زالت قائمة خصوصا من الدول التي تتكنى بالليبرالية والتي ما أن انفردت في قيادة العالم حتى بدأت برحلة البحث عن مصالحها من دون اعتبار لأية قيمة إنسانية أو أخلاقية كانت تحملها وتبشر بها فارتكبت من التجاوزات مالا يصح أن ترتكب مهما كانت المبررات ولو حتى باسم مكافحة الإرهاب إذ لا يمكن مكافحة الإرهاب بالإرهاب وبتجاوز الإنسان وحقوقه التي نصت عليها كل المواثيق والمعاهدات وهذه السلوكيات الجامحة أصبحت العائق الأكبر والمأزق الأهم أمام الخيار الديمقراطي الذي توسعت بعض آفاقه في العالم الثالث وخرجت كثيرا من الدعوات وبالصوت العالي مطالبة باعتماده كخيار وحيد للنهوض·
ولكن ما يبعث الأمل رغم القتامة هي تلك الإضاءات التي لمعت في فضاء المواطنة وحقوق الإنسان عندما لجأت إحدى دول العالم الثالث الى التضحية ببعض مصالحها وعلاقاتها الدولية لحساب الإنسان لديها عندما سحبت قواتها من العراق إنقاذا لحياة أحد مواطنيها·
وبعيدا عن كل الحسابات السياسية ومن منطلق إنساني بحت، نرفع القبعة احتراما وإكبارا لهذا السلوك المسؤول ولهذا الدرس القيمي في أدبيات السلطة ومهامها، وكم كنا نتمنى أن نلمس خطوة إنسانية وحقوقية واحدة باتجاه المواطن العربي الذي لا يعرف من المواطنة سوى بطاقته المدنية والتي غالبا ما تسحب منه بحجة الضرورات الأمنية، وكلنا أمل أن يصدر اعتراف رسمي عربي بالمواطنة حتى يتسنى لنا الاطمئنان على وجودنا وعلى حدودنا أيضا، لأن الغياب لا يشكل حضورا، ولأن فاقد الشيء لا يعطيه·
|