إلى سنوات قليلة خلت من العقد الأخير من القرن الآفل ظلت المذابح والمجازر المتبادلة بين قبيلتي "التوتسي" و"الهوتو" في رواندا والتي هزت العالم هزا هي المثال الأكثر سطوعا وشهرة للتندر والاستغراب لما تخللها من بشائع ولاتساع أعداد ضحاياها الذين قدروا بنحو مليون إنسان قتلوا في بضعة أيام معدودة بأحد الوسائل والطرق كالسواطير والفؤوس·
وإذا كان يمكن تفهم دوافع وظروف وقوع تلك المذابح الوحشية في ذلك البلد الإفريقي البدائي الفقير المغرق في التخلف فإن ما لا يمكن فهمه أن تظهر على واحدة من أكثر الأراضي التي ولدت عليها أعرق الحضارات البشرية المتعاقبة تقدما وصولا إلى الحضارة العربية الإسلامية فالنهضة الثقافية والفكرية والعلمية المعاصرة ألا وهي "أرض الرافدين" مثل هذه الممارسات البربرية الغبية التي أخذت تضاهي ممارسات "التوتسي" و"الهوتو" في الهمجية والانحطاط ولعل أبرز نماذجها المتكررة اختطاف المدنيين الأبرياء من أجانب وعرب وعراقيين وجزر رؤوسهم بدم بارد على مرأى من العالم أمام الكاميرا، أو تفجير أماكن تجمعات المدنيين في الأسواق والشوارع أو المؤسسات المدنية أو الدينية والتي كان من آخر حلقاتها الحادثان الانتحاريان التفجيريان بسيارتين ملغومتين كل على حدة في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة وهما الحادثان اللذان راح ضحيتهما عشرات الأبرياء المدنيين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في السياسة والاحتلال·
والمصيبة أن مثل هذه الفظائع من الممارسات البهيمية المنحطة ترتكب باسم الإسلام و"الجهاد" ضد الاحتلال، والإسلام والجهاد منها براء، وحتى ما شهده لبنان من حرب أهلية مجنونة مدمرة على مدى عقد ونصف العقد أكلت الأخضر واليابس وبالرغم من أنها طالت أو استهدفت المدنيين في الكثير من محطاتها وفصولها فإنها لم تشهد مثل تلك المسلكيات البربرية إذ كانت للحرب اللبنانية قوانينها ومنطقها الداخلي المفهوم في مبرراتها حتى في فصول تجاوزاتها الجنونية، وإن التقى أمراء ميليشيات الحرب الأهلية اللبنانية مع أمراء الجماعات الإرهابية بالعراق في قتل المدنيين على الهوية الطائفية أو الدينية·
والمشكلة أيضا أن قادة هذا النهج الاستئصالي يتوهمون بأنهم يستطيعون بهذه الممارسات البربرية استئصال تعدد الرؤى والتيارات السياسية في كيفية إنهاء الاحتلال وبناء العراق الجديد وتسييد رأي واحد ينسجم مع أهوائهم السياسية بينما هي لا تفضي سوى إلى تقوية مناخ الانقسامات والنزاعات الطائفية·
والملفت المدهش في الأمر أن يضحي أناس بأرواحهم لارتكاب هذه العمليات الانتحارية ضد المدنيين الأبرياء، فإذا كان يمكن تفهم اختلاف الفلسطينيين والعرب وقوى حركة التحرر العربية على هذا النوع من العمليات ضد اليهود المدنيين في إسرائيل فهل يجوز الاختلاف على إدانة ممارستها بحق المدنيين العراقيين الأبرياء؟! هنا نصل إلى بيت القصيد في تفسير هذه الممارسات السادية من الفظائع في العراق فلا يمكن أن يفتدي إنسان بحياته ليرتكبها ويعتبرها جزءا من واجبه "الجهادي" الديني إلا بعد عملية غسل مخ له وإعداد وتعبئة دينية جهادية خاطئة توغر صدره بما فيه الكفاية حقدا وبغضا ضد ضحايا عمليته الأبرياء المدنيين الذين قرر مقدما الاستشهاد في سبيل إبادتهم·
ويخطىء من يظن أن ثقافة تعبوية "جهادية" مريضة كهذه هي قاصرة على العراق فقط بل هي تتغلغل بدرجات متفاوتة في بنيتنا الثقافية الاجتماعية المعاصرة من المحيط إلى الخليج متداخلة مع مواريث ثقافة طويلة من الاستبداد والقمع للأنظمة والأحزاب والأفراد والجماعات السياسية والقبلية والدينية المتطرفة في مقت الآخر والتعددية بمختلف أشكالها السياسية والثقافية والدينية والمذهبية·
إن الحلول الأمنية لمواجهة شرور ثقافة "التوتسي" و"الهوتو" وإن كان لابد منها ما هي إلا حلول ترقيعية موقتة لن تستأصل هذه الثقافة من جذورها في بنيتنا الاجتماعية العربية، إذ لابد من تضافر الجهود لنضال دؤوب جماعي على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية والاجتماعية رسميا وشعبيا حتى نصل إلى عالم عربي جديد خال من ثقافة "التوتسي" و"الهوتو"· |