هنالك محطات مفصلية في التاريخ العربي الحديث، ينبغي تدوينها بهدف الاستشهاد والتأسي بها، أو لحفظها طازجة أبدا في ذاكرة المواطن العربي التي باتت مليئة بأمثلة محبطة من الممارسات السياسية العربية الموغلة في العفن!!
المحطة الأولى كانت في الانتصار التاريخي للرئيس السوداني "عبدالرحمن سوار الذهب" حين قام بانقلابه الشهير، الذي أطاح بحكومة كانت تسير بعكس اتجاه الشعب، لكنه - أي سوار الذهب - فاجأ الوعي والعقل العربي حين التزم بوعده بعد مرور عام على الانقلاب وسلم مقاليد الحكم الى حكومة مدنية، وتنحى بعد أن انتهى دوره المفترض، ليبقى بعد ذلك "سوار الذهب" مثالا على ظاهرة فريدة في النظام السياسي العربي!! الجهلة، ينعتونها بالغباء بينما يرى الحكماء أن فيها إيثارا للصالح العام، وخروجا عن (العرف) السياسي العربي السائد الذي يستوطن فيه الحاكم كرسي السلطة مخلدا حتى الممات·
إسقاط حكومة "كرامي" في لبنان تأتي هي الأخرى لتشكل مرحلة مفصلية لا يقل مغزاها عن محطة "سوار الذهب"، فالشارع الملتهب في لبنان الثكلى بفقدان أحد رموزها السياسيين والاقتصاديين، استطاع أن يفرض إرادته وأن يسقط الحكومة التي رأى فيها الأغلبية عنوانا سمجا لكل مظاهر الاستسلام والرضوخ لتسلط ونفوذ الآخرين فوق الأراضي اللبنانية·
لم يحدث في التاريخ العربي الحديث أن أسقط الشعب وبإرادته وحدها، حكومة معززة بنفوذ سياسي وعسكري وكما هي الحال في حكومة "كرامي" التي انهارت بفعل غضب الشارع وتصميمه·
ولا يزال في جعبة الشعب اللبناني، الكثير من المطالب الشرعية، والتي سيحققها حتما بعد انتصاره الأول في إسقاط الحكومة·
كلاهما، المثال السوداني، واللبناني، يؤكدان أن القوة والمقدرة على تحريك الجماهير بفعالية وصدق، ليست مقرونة دائما بالموقع السياسي مهما بلغت أهميته ونفوذه، وإنما هي مرتبطة ارتباطا وثيقا بمصداقية تلك القوة، وبدرجة التصاقها بالصالح العام، لذا فإن نفوذ وقوة "سوار الذهب" باقية تحرك الجماهير حتى في غيابها عن الساحة السياسية، ومن منا لا يستشهد بسوار الذهب حين يأتي الحديث عن ديمومة الكراسي، وعن اقتراع الـ %99,99 والذي ساد واجهة الانتخابات العربية، وها هو رفيق الحريري يحرك الشارع اللبناني، وبعنف، ويدفع باستقالة الحكومة من قبره·
لم يتوقع المشاهد العربي وهو يتابع التظاهرات اللبنانية الصاخبة أن ينتج عن ذلك استقالة فعلية للحكومة لأن الذاكرة العربية لم تخزن بعد دورا حقيقيا للجماهير في ترسيخ حقوقها ومطالبها ومثلما عجزت في السابق أن تتفهم رؤية ومنطق سوار الذهب·
الشعب اللبناني اليوم أمامه مسؤولية تاريخية تتلخص في ضرورة أن يدعم هذا الانتصار لكي لا يكون مجرد ظاهرة عابرة في تاريخه، وإنما نسق مستمر ومتواصل في دور الجماهير في إدارة شؤونها ومستقبلها، والمواطن العربي المراقب عن كثب، بات متحمسا للجزء الثاني من الدرس اللبناني الحاضر·
suad.m@taleea.com |