من الدروس المستفادة من صدور حكم محكمة العدل الدولية بعدم شرعية جدار الفصل العنصري الإسرائيلي في الضفة الغربية الذي ينطوي ضمنيا على الطعن في شرعية الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع وكل الممارسات والنتائج المترتبة على هذا الوجود هو أن هذا الحكم يعيد تأكيد حقيقة لطالما أمعنت قوى وتيارات عدمية في العالمين الغربي والإسلامي في تجاهلها أو التقليل من شأنها ألا وهي عدم موضوعية تقسيم العالم الى معسكرين متضادين أو كما عبر بن لادن الى فسطاطين: نحن وهم أي معسكر الإسلام والمسلمين من جهة ومعسكر الصليبيين والعرب وكل من هم ليسوا بمسلمين من جهة أخرى، فمعسكر الخير والحق والتقدم والسلم أكبر وأوسع تشابكا من هذا التصنيف الضيق، فأطراف هذا المعسكر وقواه موجودون على امتداد المعمورة كلها طولا وعرضا وفي داخل كل بلدان العالم صغيرها وكبيرها·
وهذا التقسيم الضيق الذي تنحو به الجماعات والعقليات الأصولية المتطرفة يذكرنا بالضبط بالتقسيم الثنائي التعسفي الذي أصرت عليه الأيديولوجية الرسمية السوفييتية، حيث حصرت معسكر الخير والتقدم في المعسكر الاشتراكي والدول والقوى الحليفة لها في العالم وكل من هو خارج هذا التكتل أو يختلف بهذا القدر أو ذاك مع الاتحاد السوفييتي فهو معسكر الشر والامبريالية·
ولنتذكر في هذا الصدد بدايات الحملة السوفييتية على مشروع وتعبير "عدم الانحياز" بين الكتلتين الشرقية والغربية والتي تخلى عنها الاتحاد السوفييتي لاحقا·
في حين أن الأربعة عشر قاضيا الذين توصلوا معا الى إصدار قرار المحكمة التاريخي بالطعن في الجدار العنصري يمثلون نقاء الضمير العالمي بأسره وهم ينتمون الى ثقافات وديانات وتيارات متعددة لا لثقافة واحدة أو دين واحد أو تيار محدد أو وطن واحد·
ماذا يعني ذلك كله؟ يعني ذلك أن من الغباء وقصر النظر بمكان تجاهل عطاءات وأدوات كل قوى الخير والتقدم في العالم مهما كان تفاوت عطاءاتها وإمكانياتها·
إن توظيف كل أشكال الأسلحة والأوراق الممكنة في آن واحد هو أمر في غاية الأهمية لأصحاب أي قضية سياسية عادلة، ومن الخطأ الاستخفاف بأي منها، ولعل واحدا من الأخطاء التي وقع فيها العرب - دولا وحركات - ولا سيما الأنظمة القومية وحركة المقاومة الفلسطينية أنهم في مرحلة من المراحل أهملوا كل أو جل الأوراق الأخرى التي يمتلكونها من سياسية واقتصادية ودبلوماسية وإعلامية، وعولوا أو راهنوا فقط على الحسم العسكري سواء بمعركة الجيوش النظامية "المنتظرة" أو بـ "الكفاح المسلح" من خارج حدود فلسطين كما فعلت قيادة المقاومة الفلسطينية·
وما زال هناك من يراهن على هذا الحل وحده، بل ليس غريبا أن يبرز الكثير من المتصلين الفلسطينيين والعرب بقناة الجزيرة في برنامج خاص برصد ردود الأفعال على قرار المحكمة من يستخف أو يهزأ بالقرار وبجدواه لمجرد أن إسرائيل ستضربه به عرض الحائط لكن ما لم يفكر فيه هؤلاء هو أن تضربه إسرائيل بعرض الحائط شيء، والعمل على توظيف هذا المكسب من خلال جهد عربي دؤوب لعزل إسرائيل دوليا توطئة لإجبارها على إزالة الجدار شيء آخر·
ومن المفارقات أن إيران التي تبنت هي الأخرى مثل هذه النزعة قبل عهدها الإصلاحي، واستخفت بالأمم المتحدة وبأدوار كل الوسائل والأوراق السلمية والدبلوماسية لحل قضايا الشعوب ومن ضمنها الشعب الفلسطيني قد أيدت قرار المحكمة واعتبرته دليلا على أن "الأسرة الدولية تعارض السياسة التوسعية والعنصرية للنظام الصهيوني" في حين اعتبره حليفها اللبناني السيد حسن نصر الله أنه على الرغم من إيجابيته "لكنه لا يساعد على إزالة الجدار" وضرب مثلا بفشل القرار الدولي رقم 425 في إجبار إسرائيل على الانسحاب من لبنان، وأضاف: "لكن بفضل المقاومة استعدنا أرضنا"!
ومن دون التقليل من الدور الكبير لهذه الورقة - المقاومة اللبنانية المسلحة - فإن ما غاب عن ذهن "السيد" نصر الله التساؤل عما إذا كان يمكن تثبيت هذا النصر دوليا وحشد أوسع تحالف دولي حوله وترسيم الحدود أو وضع خطوط فاصلة متفق عليها بين الطرفين، هل كان يمكن كل ذلك تحقيقه بمعزل عن هذا القرار الدولي وعن سائر غطاءات الشرعية الدولية والقانون الدولي؟! |