رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 4 اكتوبر 2006
العدد 1745

في ما أثاره حارس العقيدة من جدل
منصور مبارك

كأن نبوءة أطلقها الأديب والسياسي الفرنسي أندريا مالرو حول كون القرن الحادي والعشرين سيصبح بامتياز، إما قرنا دينيا أو سيتضاءل فيه دور الدين الى حد كبير، قد استقرت في ذهن جوزيف ريتسينغر وكنيته بنديكتوس السادس عشر وغيره من المنافحين عن مصائر الأديان، فأضحت بذلك نجما هاديا لما عزم عليه من تجسيد لاحتمالها الأول وإمحاء لنصفها الآخر، الذي مازال خبيء المستقبل· ولئن كان ما ينضح به الفضاء العالمي فيما خص العلاقة بين الأديان مرجحا لكفة الشق الأول من نبوءة مالرو تلك، أقلها بموازين الصخب والضجيج لجهة كونه سمة لازبة لتلك العلاقة·

ففي حين تشهد جبهة الأديان غير الموحدة، كالبوذية والهندوسية أو الكنفوشية، أو ما كان في مصافها، هدوءا وسكينة مد يدين فإن الآية مناقضة لما هو عليه حال الأديان التوحيدية، الإسلام، والمسيحية، واليهودية، التي تنتمي جميعها الى الشجرة الإبراهيمية، وتنظر الى النبي إبراهيم عليه السلام بوصفه السلف ومنطلقها الأساس، بما هي منهمكة فيه من تراشق لا يفتر، ارتقى مؤخرا الى سوية مناوشات بدائىة يحكمها الكر والفر، ليس الاعتذار عنها بمستطيع أن يبدد سوء الطوية·

وحينها يدخل "حارس العقيدة" البابا بنديكتوس السادس عشر طرفا في تلك المناوشات، لينبىء ذلك عن مأزق حقيقي تضرب جذوره عميقا في تلك العلاقة، فالبابا وهو يعرض نفسه متحدثا باسم المسيحية، وذلك ادعاء مجاف للواقع - طالما أن هناك "باباوات" آخرين، لكنائس أخرى كالأرثوذكسية، والقبطية - قد وجه نقدا للإسلام مستعينا بحادثة تاريخية هامشية استلها من كتاب لم يتداول على نحو واسع، أقلها خارج المعبد الأكليركي· مشيدا في الوقت ذاته، بمحقق الكتاب والذي بدا من لقبه عربيا، على مجهود كبير بذلة في سبيل ذلك ولاحت هامشية تلك الحادثة في المتن العريض والمديد للعلاقة المسيحية الإسلامية، وكأن راهنية الأوضاع بين الديانتين قد محضتها أهمية استثنائىة، حدت بالبابا الى رفعها لمصاف الوثيقة التاريخية، وكان حريا به وهو يتنكب لحفريات المعرفة أن يجلي بعضا من غموضها، أقلها ليعرف الجمهور العريض الذي طير له الإعلام نص المحاضرة، شيئا عن شخصية المتحاورين الإمبراطور مانويل الثاني والمثقف الفارسي الغامض، اللذين وجدا فسحة في الحرب يناقشان فيها العقائد والإلهيات·

في النص الأصلي للمحاضرة التي ألقاها البابا بنديكتوس السادس عشر، لم يكن إيراد تلك الحادثة التاريخية محض اقتباس عابر، بل أتى في صلب ما يرومه البابا، طالما أنه اختتم تلك المحاضرة بالعودة الى تلك الحادثة، فداحة تلك  المحاضرة تكمن في كونها ألقيت في سياق زمني تشهد فيه العلاقة بين تلكم الأديان انحدارا متزايدا، كانت نافلتها أزمة الرسوم الدنماركية، وقبلها تلك التي قامت بين المسيحية واليهودية، على إثر إقرار البابا الراحل يوحنا بولس الثاني بمسؤولية اليهود التاريخية عن اغتيال السيد المسيح، في أعقاب عرض فيلم الأسترالي ميل جيبسون "عاطفة المسيح" حينما صرح الأول، آنذاك، قائلا بأن الفيلم قد جسد الأحداث كما وقعت بالفعل، ثم عاد بعدها ليعتذر عن تصريحه هذا·

ما أقدم عليه البابا الراحل من التلميح إلى أن أيدي اليهود ملطخة بدم المسيح، قد أقام الدنيا ولم يقعدها، فاليهودية، بدءا ديانة قومية في صلبها، إنما تعرف نفسها بالتمايز عن الآخر، ضاربة بالتالي ثنائىة صلدة منيعة بين الأنا والآخر، تجد تعبيرها الأمثل في انتفاء الممارسة التبشيرية واعتماد الغيتو تنظيما اجتماعيا غالبا في الشتات·

وهي تستدعي بسبب من بذرة القومية المستقرة فيها، بنية أسطورية تعزز تلك الثنائىة في علاقتها بالأديان الأخرى، طالما أن القومية في جوهرها تتغذى على أسطورة التاريخ البعيد، فالدين والقومية يعملان بوصفهما مفصلين بتحركهما معا تنشط فكرة "الأنا" وتتجسد، من حيث هي كيان "شعب" الله المختار في "أرض" الميعاد، لتحيل بالتالي أي تهديد للشعب والأرض الى قضاء مبرم على اليهودية كدين، فالأسطورة اليهودية مازالت محتفظة بحرارتها وتماسكها ولم تعدم بوصفها كذلك من تقديم معنى للعالم، قد يتبدى في أحايين كثيرة مزريا، كأن تتماهى خلاصيا عصا النبي موسى عليه السلام مع السلاح النووي الإسرائيلي، في المقابل فإن أعداء إسرائيل لم يكونوا قط شحيحين في تنشيطهم للفكرالأسطوري اليهودي، بطموحهم إلقاء اليهود في البحر، أو تمنيهم إزالة إسرائيل من الخارطة، أو إنكار للأوشفيتز كما لهجت به مراجع زمنية وروحية في غير بلد إسلامي، وكأنهم يرددون على ذاكرة لم تلحق بها آفة النسيان حادثة الأسر البابلي، وصالة الشتات اليهودي، والحال كذلك، فإن تلك المحايثة ما بين الإلهي والزمني في اليهودية تجعل من الحوار مع الآخر، أقلها الآن، ضربا من الوهم لا يقيم سوى في عقول مردديه·

ولكن ذلك الذي ألم بالكنيسة الكاثوليكية بدا من طينة أخرى، فهي تواجه مأزقا حرجا، يجعل من مقولة مالرو السابقة رهانا مصيريا، من علائم ذلك المأزق أن الكنيسة قد انكفأت على قضايا العقائد وعالم الماورائيات، فيما لاح بأنه تسليم نهائي لسطوة عقل التنوير الأوروبي، فاندحار الكنيسة، وذلك أمر معلوم، قد بدأ بثورة عقلية أخذت ثلاثة أشكال متمايزة تضافرت بصورة جدلية، عصر النهضة، وعصر الإصلاح، وعصر الثورة العلمية، وكان منطلقها فيما خص الكنيسة الكاثوليكية، العودة للنصوص الأصلية، للإنجيل، اليونانية منها والعبرية، تأتي عنها قراءة نقدية للنصوص الأصلية، وإعادة تقييم لأصالتها وتماسكها التاريخيين فكان أن أفضى نقد نصوص الإنجيل الى قطيعة تاريخية نقدية مع ذلك الإرث الديني، أنهت السيطرة الثقافية للكنيسة، وأسست لروح أكثر فردية، وعلمانية للعصر الجديد، وذلك تحديدا ما جعل العلم يبرز بوصفه أيمان الغرب الجديد، فالعلم الحديث بإنجازاته المتسارعة ما فتىء يقضم أرضا تستوي عليها أساسات الكنيسة، فالكشوفات الجديدة من استنساخ وهندسة وراثية وتحويرات تطال الإنسان ومصيره، جعلت الكنيسة، أقلها في ميدان الأخلاق، تكف عن كونها بوصلة هادية للفرد، بله أن ميدانها الأخير هذا، قد بزته فيها الفلسفة التي أصبحت منشغلة أكثر من ذي قبل بقضايا مثل موضوعية القيم، ونسبية الحقيقية وأشكال العقلانية وحدودها، وتلك جميعها تقود الى السؤال عن القيمة المطلقة، والحقيقة المطلقة، والعقلانية الكونية وأخرى، عدتها الكنيسة بداهة حقا حصريا لها بل أن فيلسوفا كبيرا كريتشارد رورتي، ذهب إلى أن الفلسفة يجب أن تركز في عملها على تقليص الألم الإنساني وإيجاد منابع متعددة للأمل في العصر ما بعد - الديني، وكأنه هنا يشير الى عجز رديء قد أخذ من الكنيسة كل مأخذ· بنديكتوس السادس عشر وقد لمس حصارا ضاقت به الكنيسة، كان قد أصدر عدة قرارات لاحت وكأنها استعانة بالسماء لمواجهة إشكالات أرضية، فهو قد شكل لجنة في الفاتيكان يناط بها مهمة إعادة رسم عالم الأخرويات المسيحي، على نحو يروم إلغاء "اليبوس" وهو في العقيدة المسيحية منطقة بين الجحيم والنعيم تسكنها أرواح الأطفال الذين توفوا قبل تعميدهم وأولئك الخيرين ممن لم يدركوا الديانة المسيحية ونشأوا في أزمنة الكفر، وبإلغائه "اليمبوس" فإن الحبر الأعظم إنما يهندس معمارا جديدا في عالم الآخرة المسيحي يقوم على ثنائىة قاطعة، علها تسترد بعضا من سطوة المسيحية وتأثيرها، أمام التحديات التي يطرحها العلم وتمس حياة الإنسان بشكل مباشر·

فهو قد أعاد بطريقة مبطنة هجوما سبق أن شهدته أوروبا، سعى للنيل من قيم التنوير بلغ ذروته مع "الجدل السالب" لممثلي النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، بنقدها "للعقل الأداتي" الذي أقامه عصر التنوير، الذي قدم للإنسان بيد، الرفاه والتقدم والسيطرة على الطبيعة، وأخذ منه بيد أخرى إنسانيته ومعنى حياته·

في سياق تلك المحاضرة توكأ البابا على التاريخ، ناشدا ما يضفي على تلك الثنائىة قواما وصلابة مطلوبتين، ففي حديثه عن "اللوغوس" العقل"، والكلمة في الحضارة اليونانية، ومضاهاته "باللوغوس" الكلمة في الكاثوليكية، وكان الأولى المنبع والجذر المباشر للثانية ومصالحتها لا تغدو سوى عودة الى الصفاء الأولي، مقارنة بحضارات وأديان أخرى لا تني عن عودة مستديمة لمنابتها البعيدة، فإن ذلك بدا طريقا ملتفا في دعوة الحبر الأعظم لاعتماد المسيحية ممثلة لحضارة غربية تشهد فيها الأولى تحديا مصيريا راهنا، وفي الوقت ذاته، دعوة مباشرة الى ثنائية مطلقة على منوال "اليمبوس" قوامها الأنا، والآخر المطلق في غيريته· وذلك على ما يبدو سيكون برنامج عمل الحبر الأعظم للكنيسة الكاثوليكية·

�����
   
�������   ������ �����
 

قوس التطرف:
سعاد المعجل
زمانان ما بين هدى وليلى:
د. محمد عبدالله المطوع
الفساد وذاكرة المجتمع:
محمد بو شهري
لاحاجة إلى حوار بين الأديان:
فهد راشد المطيري
ماكو فايدة:
على محمود خاجه
فراش الوزير "وزير":
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
نواب الأمة كل وهمّه:
المهندس محمد فهد الظفيري
كارثة الغزو.. كلاكيتزز ثاني مرة:
صلاح الهاشم
سبع سنوات أخرى:
د. محمد حسين اليوسفي
رمضان ومفارقات الزمان:
د. لطيفة النجار
عام الهزيمة والإحباط في إسرائيل:
عبدالله عيسى الموسوي
في ما أثاره حارس العقيدة من جدل:
منصور مبارك
كاميرات في حفلات الزفاف:
د. فاطمة البريكي