من المعروف تاريخيا أن الهجرة الجماعية المصاحبة الآتية من قارة إلى أخرى تحمل أهل البلاد الأصليين على الفرار أمام أخطار القتل والتدمير، ويستمر هذا الفرار حتى يجد الفارون مأوى في منطقة جبلية وعرة لا ينجح الغزاة في دخولها، أو يصلون إلى حافة محيط، وتقدم أوروبا بما شهدته من غزوات وهجرات جماعية من الشرق ثم من الشمال من أواسط الألف الأول قبل الميلاد وحتى نهاية القرن العاشر الميلاد أمثلة واضحة على ما نقول: عشرات الشعوب التي تسكن جبال القوقاز في شرقي القارة ثم جبال البلقان في جنوبها، أما في غربها فنجد بقايا السلت في أيرلندا وأسكتلندا وويلز وكذلك شعب الباسك·

وقد أحاط بشبه جزيرة البلقان منذ القرن السابع عشر ثلاث إمبراطوريات متصارعة انهارت جميعا غداة الحرب العالمية  الأولى: الإمبراطورية العثمانية التي اكتسحت جنوبي شرق أوروبا حتى هُزم جيشها أمام مدينة فيينا سنة 1525 وفي مواجهتها إمبراطورية أسرة هابسبورج التي سميت فيما بعد إمبراطورية النمسا والبحر، والإمبراطورية الروسية التي ضمت غالبية الصقالبة بعد أن كانوا يتسربون أفرادا وجماعات ليحترفوا أساسا مهنة القتال كجنود مرتزقة لعب فريق منهم دورا مهما في الأندلس حين سيطروا على الحكم كما فعل المرتزقة الأتراك في بغداد، وتصارعت الإمبراطوريات الثلاث على السيطرة على شعوب البلقان المختلطة الأعراق: إغريق، مقدونيون، ألبان "أو أشقبينديين بلغتهم الغربية" صقالبة "الذين يشار إليهم في وسائل الإعلام العربية باسم السلاف نقلا عن أهل أوروبا وجهلا بالتراث العربي" وأتراك استقروا أثناء الحكم العثماني الذي لم ينحسر نهائيا إلا خلال الحرب العالمية الأولى، ومجريون، ويهود قدموا حين طردهم ملوك أسبانيا وإن ذهب أغلبهم إلى المغرب، وأعداد لا بأس بها من الغجر·

وقد نشأت دول البلقان التي نعرفها نتيجة حروب عثمانية روسية "بلغاريا مثلا" أو عثمانية - نمساوية "كرواتيا ، سلوفينيا، البوسنة والهرسك" أو حروب متعددة الأطراف "استقلال اليونان عن تركيا في العقد الثالث من القرن الماضي" والأمر الجوهري أن كل حدود دول البلقان لا تتفق إطلاقا مع عرقية واحدة، وكل منها يضم أقليات كبيرة، وهكذا تضم بلغاريا إلى جانب أغلبيتها الصقلبية أقليتين مهمتين: الترك والمقدونيين، وتضم اليونان في شماليها إقليم مقدونيا وكذلك أقلية ألبانية كثيرة العدد بالإضافة إلى عدد  من الترك في شرقيها، وكانت يوغوسلافيا التي ظهرت كدولة واحدة في ترتيبات الحلفاء غداة هزيمة ألمانيا والنمسا في الحرب العالمية الأولى، ولكنها  كانت متنوعة القوميات: الألبان، المقدونيين وكذلك شعوب من أصل صقلبي ولكنها تميز نفسها عن الصرب، والكروات والبوسنيين والسلوفينيين الذين كانوا في بداية تلك الحرب جزءا من إمبراطورية النمسا والمجر الذي تجسد في ظاهرتين: استخدام الحروف اللاتينية في كتابة لغتهم بدلا عن الحروف الكيرلسية التي احتفظ بها الصرب، وانضمام المسيحيين منهم إلى الكنيسة الكاثوليكية في حين بقى الصرب في إطار كنيسة الروم الارثوذكسية التي ينتمي إليها كل الروس تقريبا، يضاف إلى ذلك أهل الجبل الأسود الذين يميزون أنفسهم لأسباب تاريخية عن الصرب، وإزاء هذا الوضع أقر الحزب الشيوعي بقيادة تيتو بوجود هذه القوميات  وجعل من يوغوسلافيا جمهورية فيدرالية وأقر لإقليم كوسوفو بحكم ذاتي  كامل رغم المعارضة الصربية، وكان من أهم معالم سياسة تيتو استخدام جزء من موارد لدولة الاتحادية التي يأتي معظمها من الجمهوريات الغنية في الشمال في تنمية الجبل الأسود وإقليم كوسوفو وإن ظلت الفروق كبيرة بين متوسط دخل الفرد في كرواتيا وسلوفينيا ومتوسط الدخل في كوسوفو والجبل الأسود، وكانت هذه السياسة من أهم العوامل التي أسهمت في انهيار الدولة الفيدرالية وأسرعت كرواتيا وسلوفينيا قبل أي إقليم آخر إلى الانفصال، وبقية الأحداث معروفة والمأساة التي تعيشها تلك الشعوب حاليا تهز أوروبا كلها وتشغل كثيرا من الناس خارجها ، ولكن أوروبا تعرف من تاريخها أن حروب البلقان كانت كثيرة وجرت دولا أوروبية أخرى إلى القتال ولهذا أطلق الأوروبيون  على البلقان اسم "برميل البارود" الذي يمكن أن يتفجر في أي وقت بشرارة نار واحدة·