الربانيون: إن تقدم العلم والمعرفة، والاختراعات والاكتشافات العلمية منذ القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين· قد فتحت عيون الناس· على عالم الطبيعة وعالم الإنسان· وأصبح العلماء صفوة نادرة، تكشف أسرار الحياة في الطبيعة والمجتمع، وتزداد مكانتهم العلمية والاجتماعية رسوخا وأصبح العلم في الخمسين سنة الأخيرة قوة إنتاجية مباشرة، حيث يتحول العلم إلى تكنولوجيا راقية وبعيدة الأثر على نظام الإنتاج والعمل، وأصبح العلم يتطور جماعيا، وليس مقصورا على المبادرات والاجتهادات الفردية وإن كانت هذه لا تزال قائمة، إلا أنها ليست بمستوى البحوث والدراسات العلمية، وتسعى الملاكية إلى سحق روح المبادرة عند جمهرة العلماء، إلا أنها في الوقت نفسه، بحاجة إلى التقدم العلمي لمجابهة القوى المنافسة وزيادة معدلات الربح·

إن التطبيق العلمي يعتمد على جماعات متزايدة من العلماء· وأخذ العلم يتغلغل في حياتنا إلى أبعد الحدود، من خلال وسائل الإعلام، كالتلفزيون والمذياع والكتب والنشريات والإنترنت وغيرها، كما أننا نحيي وسط كثرة من السلع والخدمات التي توفرها التقنية المتطورة، ومع هذه المسيرة ازدادت مكانة العلماء الاجتماعية، وربما السياسة· والمؤمنون منهم هم الربانيون·

(ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلِّمون الكتاب بما كنتم تدرسون) 79 – آل عمران وهؤلاء الربانيون يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر "لولا ينآهم الرابنيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت··) 63 – المائدة · وهم الذين قال الله فيهم "إنما يخشى الله من عباده العلماء" 28 – فاطر· و"هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" 9 -الزمر· ويقول الرسول "صلى الله عليه وسلم" "العلماء ورثة الأنبياء"· لأن إيمانهم قائم على يقين راسخ وعلمي، ويتشبع العلماء بالنزعة الإنسانية الراقية·

وإنني أرى أن العلماء الربانيين هم المؤهلون لقيادة الحركة الاجتماعية والسياسية الصاعدة، خصوصا مع ضعف وتقلص البروليتاريا "المستضعفين" وتضاؤل أهميتها ومكانتها الاجتماعية والسياسية، ولم تعد بنفس طبيعة البروليتاريا في القرن التاسع عشر، وقت ظهور وانتشار الاشتراكية العلمية·

على يد ماركس وانجلز، هذا إلى جانب تزايد الطابع الفني للإنتاج وزيادة الأجور، والرشوة الاجتماعية للعمال في الغرب على حساب العالم الثالث، إلا أن الطبقة العمالية المنتجة ستظل هي مادة الثورة· ووقودها· ولكن قيادتها وتثقيفها وتعبئتها ستكون من مهام العلماء والربانيين، وإذا كانت الملاكية قد استطاعت أن تدجن العمالة، وخصوصا الفنية، فإنها لن تتمكن من تدجين العلماء، لأنها عقول علمية نادرة، ويستطيعوا أن يعملوا في أية جهة أو بلد· لقد قال لينين إن الطبقة العاملة يأتيها وعيها من خارجها، ونحن نقول: إن العلماء مهيئون للقيام بهذا الدور التاريخي من جديد·

الربِّيون وهم الشغيلة والمنتجون، والذين يعتمدون على سواعدهم وقواهم العضلية والذهنية لتدبير وسائل عيشهم، وهم الذين يخلقون الدخل والثروة في كل المجتمعات، وهم مصدر السحت "فائض القيمة" الذي يتكدس في أيدي الملأ الرأسمالي والإقطاعي في شكل سحت مستأصل من الطبقة المستضعفة المسحوته· ولذلك فإنهم ليسوا ضعفاء، وإنما مستضعفون نتيجة لسلب وسرقة وسائل الإنتاج، وتحويلها إلى ملكية خاصة بيد الملأ، وقد جاهدوا وناضلوا، وسالت دماؤهم أنهارا عبر التاريخ· وكانوا وقود ومادة الثورة في جميع العصور· بما فيها الثورة الإسلامية بقيادة نبي الله محمد " صلى الله عليه وسلم "· وقد وقفوا إلى جانب كل الرسل والأنبياء والمصلحين· وقد وصفهم الله بالربيين، أي  الجماعيين من ربّة وهي الجماعة· "وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا، والله يجب الصابرين"146 -آل عمران· والربّيون هم أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير والثورة على الواقع الفاسد، وعلى أيديهم تتحقق الانتصارات، ويتحرر الإنسان من عبودية الملكية الخاصة· إنهم ينجزون قدر الله في قوله "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة· ونجعلهم الوارثين" 5 -القصص· وهكذا مكنهم الله في معارك الحق والعدل والحرية· وسوف تتوالى انتصاراتهم إلى أن يخرج الملأ الطاغوتي من التقويم التاريخي نهائيا، وينتصر الإنسان الكادح "واذكروا إذا أنتم قليل مستضعفون في الأرض، تخافون أن يتخطفكم الناس، فآواكم وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون" 26 -الأنفال· وقد أشار القرآن بكثرة في الآيات إلى المستضعفين الربيين بأنهم "الذين آمنوا وعملوا الصالحات"· أي الخيرات المادية التي ينعم بها الناس من جميع البضائع والخدمات وأن الإنسان مصيره الخسران "الاغتراب" في الدنيا والآخرة إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتحلو بالصبر والحق· أي العلم "والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصو بالصبر" سورة العصر· هذه السورة التي يقول العلماء إنه لو لم ينزل غيرها لكفى·

ويأمرنا الله أن ننصر ونقاتل إلى جانب المستضعفين "وما لكم لاتقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليا، واجعل لنا من لدنك نصيرا" 75· النساء وعلى أيديهم سيظهر  الله دينه على الدين كله ولو كره الكافرون والماكرون والمنافقون "وعد الله الذين  آمنوا منكم، وعملوا الصالحات، ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا" 55 ــ النور· ويطلق الملأ الساحت على جماهير الشغيلة ــ والمنتجين من المستضعفين ألقابا وتسميات رذيلة· "وما نراك اتبعك، إلا الذين هم أراذلنا" 27 ــ هود· وهو "ولا أقول للذين تزدري أعينكم يؤتهم الله خيرا··"31 -هود· كما أطلق طواغيت المال من اليهود والنصارى على أتباع محمد " صلى الله عليه وسلم " كلمة الأميين، ولكن الله ذكرهم بأن هذا اللقب يشرف الله به عباده الصالحين· فالأميون هم الأمميون، من أمة وأمم، بمعنى جماعيون· لأن الأمة هي الجماعة· "وهو الذي بعث في الأمين رسولا منهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين··"2 -الجمعة· هذه هي مكانة الأميين من شغيلة ومنتجين· وقد عرض مشركو مكة على النبي " صلى الله عليه وسلم " بأن يطرد العبيد والكادحين والفقراء من مجلسه· عندما يجتمع بكبار القوم، ولكن سرعان ما نزل الوحي يؤنبه على ذلك· "ولاتطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه" 152 -الأنغام، هذه هي منزلتهم عند الله وعلى أجسادهم الطاهرة قامت أكبر وأعظم ثورة في التاريخ، وعلى أيديهم تحققت الجماعية التعاونية، وغدت نبراسا ومعالم في الطريق للأجيال الصاعدة نحو الجماعية الإسلامية، وهي حتمية إلهية، تاريخية وطبيعية·