مع أن العالم عامة والعرب والمسلمين بخاصة قد صدموا بكل تأكيد لمشاهد الدمار والتخريب الواسع الذي لحق بمدينة النجف الأشرف بما في ذلك مشاهد الجثث المتعفنة التي نقلتها كاميرات الفضائيات والصحافة العالمية فور انتهاء المعارك الأخيرة بين ميليشيا الصدر من جهة والقوات الأمريكية والعراقية من جهة أخرى·
ومع أن وقع الصدمة على نفوس العراقيين أشد -ولا سيما الشيعة منهم - لما تمثله النجف من مكانة روحية هائلة في وجدانهم، إلا أن ثمة فئتين من هؤلاء يتفردون عن الآخرين في مشاعر الإحساس بهول هذه الصدمة الى درجة ترقى الى الفجيعة بما لا يستطيعون معها التعبير عن حدة آلامها:
الفئة الأولى على وجه الخصوص - وبالدرجة الأولى - هم النجفيون الذين بقوا خارج المدينة سواء داخل العراق أو خارجه·
والفئة الثانية: كل من ارتبطت مخيلته بالنجف اسما ومكانا بذكريات عزيزة على قلبه·
ولا أحسب أيا من انتمى الى هاتين الفئتين - كحال كاتب هذه السطور - إلا وشعر في الغالب بعجز الكلمات عن التعبير عن أحاسيسه وآلامه لهول صدمة المشاهد الفاجعة التي لحقت بواحدة من أعرق وأقدس المدن الإسلامية والعربية ومن أكثرها مساهمة في الحضارة العربية الإسلامية، وفي النهضة الثقافية والسياسية والفكرية العربية المعاصرة بوجه عام والعراقية منها بوجه خاص·
لكن هل كان حقا كل ما جرى هو قدر محتوم مفروض على النجف لم يكن لهم خيار سوى مواجهته والاستسلام إليه؟
قبل فترة وجيزة من أحداث النجف الأخيرة كتبت هنا مشيدا بمبادرة مراجع المدينة الكبار التي جاء بيانها تحت عنوان: "نداء الى قيادة قوات التحالف وجيش الإمام المهدي" والذي جاء فيه: "تدعو الحوزة العلمية قوات الاحتلال التي تحاصر النجف الأشرف الآن الى عدم اقتحامها مطلقا· كما تجد نفسها ملزمة بتأكيد طلبها الحثيث من جيش المهدي ألا يعرض مدينة النجف المهددة اليوم بالاجتياح بسببهم"·
ثم يضيف البيان: "لقد كفى النجف ما قدمت من شهداء على مدى العقود الماضية ومنها اجتياحها من قبل صدام عام 1991 مما أدى الى استشهاد عشرات الآلاف من أبنائها رجالا ونساء وأطفالا ودفن الكثير منهم أحياء بالإضافة الى هدم دورها ونشر المقابر الجماعية على طول أرض النجف"·
ويضيف: "ولذا فإن الحوزة العلمية تدعو جيش المهدي الى انتهاج الطرق السلمية وعدم اللجوء الى العنف مهما تكن الدواعي، فإن حرم الإمام علي "ع" أعز من كل عزيز، كما أن حرمة دم المسلم معلومة·
لقد بقيت لعنة التاريخ تطارد صدام يوم اقتحم النجف وكربلاء فلا تتسببوا أنتم باقتحامها ثانية"·
وما هي إلا أيام أو أسابيع قليلة من صدور هذا البيان حتى حل بالمدينة المقدسة ما حذر من وقوعه بيان المراجع الكبار تماما·
وإذا كان لا أحد يتوقع بالطبع من محتل أجنبي غاز عريق في جرائمه كالجيش الأمريكي أن يصغي لنداء العقل الذي جاء به بيان المراجع، إذ ماذا تمثل "النجف" وماذا يمثل أهلها بالنسبة إليها لكي يرتدع عن مهاجمتها؟!، وإذا كان لا أحد بحاجة الى جهد كبير للاستنتاج بأن القوات الأمريكية ذات التسليح الثقيل الأقوى والأكثر تطورا جوا وبرا كان لها نصيب الأسد فيما حل بالمدينة من دمار هائل·
فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا لم تجد تلك المناشدة الهادئة الحكيمة العقلانية للمراجع أي آذان صاغية من قبل الشاب السيد مقتدى الصدر وجيشه؟!
بل لماذا وقفت المرجعيات الشيعية خارج العراق ولاسيما في إيران ولبنان إما متفرجة منكفئة عن تفعيل مبادرة المناشدة المرجعية النجفية، وإما مؤيدة لمقتدى صراحة أو ضمنيا ومعها في هذا الموقف لفيف من القوى والرموز والجمهور الشيعي؟! |