تتقارب معظم الدول العربية إن لم تكن كلها في القيود الدستورية على نقد قياداتها السياسية العليا بما يحصنها ويجعلها فوق النقد والمساءلة السياسية حتي في قراراتها الخطيرة التي تمس مصالح بلدانها وشعوبها·
وهذه القيود تعد من أهم المعضلات الأساسية التي تقف حجرا عثرة في تطوير الأنظمة السياسية شبه الديمقراطية أو لتبني مشاريع إصلاحية·
وعلى العكس من ذلك تماما فإن المرء حينما يتابع ما بلغته الدول الديمقراطية من حرية واسعة في نقد القيادات السياسية للدولة، والسلطة التنفيذية ينتابه الذهول للمدى الذي وصلته ممارسة هذه الحرية في بعض هذه الدول الى درجة تمس في كثير من الأحيان حتى الحرية أو الكرامة والحقوق الشخصية لتلك القيادات وهي "الكرامة" التي عادة ما تتذرع بها القيادات العربية في فرض تلك القيود الدستورية لحمايتها من المساءلة السياسية·
وعلى النقيض من هذه الذرائع نشير هنا على سبيل المثال - لا الحصر - لواقعتين سبق أن كتبت عنهما قبل سنوات خلت من الحالات الشاذة التي نشرتها الصحافة، وجرى خلال كل منها إهانة مواطن على يد قائد الدولة "أو السلطة" بكل ما تحمله معنى كلمة إهانة وبكل معنى الكلمة لاستخدام اليد في الإهانة ألا وهي الصفعة على الخد فهل هناك في شرفنا وعاداتنا العربية شيء أقسى من الصفعة على الخد في الإيذاء النفسي للفرد الأشد من الإيذاء البدني؟
الواقعة الأولى تمثلت فيما قام به الرئيس اللبناني السابق الياس الهراوي بصفع رئيس تحرير مجلة "الشراع" اللبنانية حسن صبرا أمام الملأ في حفل عام في بيروت، وأحدثت الواقعة عاصفة من ردود الأفعال السياسية والإعلامية، ومع ذلك فقد انتهت بسلام بإسدال الستار عليها وبقيت آثارها التي لا تمحى الى الأبد على خد المسكين من دون ولو رد أدنى اعتبار معنوي له·
الواقعة الثانية: تمثلت في قيام رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات في أحد المواقف التي لم يتحكم خلالها بانفعاله بصفع قائد الأمن الوقائي الفلسطيني السابق ومستشاره الحالي جبريل الرجوب بتسديد صفعة قوية على خده على خلفية نزاع أو إشكال حول حدود ممارسة الصلاحيات المخولة له هذا الأخير، وقد أسدل الستار على هذه الواقعة أيضا وبقيت آثار الصفعة محفورة في نفسية المسكين دون أدنى من رد الاعتبار إليه اللهم تعيينه "مستشارا" تعويضا عن إعفائه من كل المناصب·
وثمة صفعة ثالثة ضحيتها هذه المرة قائد حكومة غربية ديمقراطية وهي تجسد مفارقة ساخرة لدى مقارنتها بتلك الصفعتين العربيتين وقد تلقاها المستشار الألماني جيرهارد شرودر، فبينما كان في أحد أيام مايو الماضي يوقع تذكارات لمجموعة صغيرة من الأعضاء الجدد في حزبه الديمقراطي الاشتراكي تقدم منه مدرس رياضيات عاطل عن العمل وصفعه بشدة على خده مما تسبب في إحمرار وجهه، وكل ما فعله الحراس أنهم أمسكوا به واقتادوه بعيدا، واستجوب فيما بعد لمدة ثلاث ساعات فقط وأطلق سراحه وصرح متحدث باسم شرطة "مانهايم" تعليقا على الواقعة: "لم يكن هناك سبب لاعتقاله ولهذا أفرجنا عنه·· لقد أجرينا تحقيقا بشأن الإيذاء البدني واتضح أن المستشار لم يصب بأذى من جراء الصفعة" هذا كل ما في الأمر·
أما الصافع فقد برر بدوره فعلته بعد الإفراج عنه قائلا: "صحيح إن اللطمة قوية وصوتها عال سمعه الجميع لكن كنت أريد أن أهزه·· لقد وصل الى السلطة بوعود ولكن لم ينفذ منها شيئا"·
ولا يسع المرء إزاء مقارنة هذا الجنوح الغريب في توسيع ممارسة الديمقراطية في الغرب مقارنة بالإفراط في تضييقها في الشرق سوى القول: "ولله في خلقه شؤون"!
|