رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الاربعاء 21 شوال 1426 هـ . 23 نوفمبر 2005
العدد 1704

انتفاضة على بوابات باريس
د. محمد حسين اليوسفي
alyusefi@taleea.com

ليس هذا العنوان من بنات أفكارنا وصفا لما يحدث في ضواحي باريس الفقيرة منذ السابع والعشرين من الشهر الفائت، بل هو عنوان مثير تصدر صفحات إحدى كبريات الجرائد الألمانية واسمها "فرانفكورت الجمان زايتنج" على ذمة صحيفة النيويورك تايمز ( 11/6)·

وهو وصف يبدو غير دقيق، أو هو بالأحرى وصف تجاوزته الأحداث، ذلك أن "انتفاضة" الشباب الفرنسي من أبناء المهاجرين الذين تنحدر أصول معظمهم من شمال وغرب إفريقيا لم تتوقف عند "بوابات باريس" بل امتدت إلى معظم المدن التي بها تركزات من تلك الجماعات العرقية نفسها· وقد أجبر ذلك الحكومة الفرنسية على فرض حالة الطوارئ، لأول مرة منذ نصف قرن، في أكثر من ثلاثين مدينة ومنطقة بعد تردد دام أسبوعين· وفرض قانون الطوارئ قد لا يعني لنا الكثير نحن أبناء المجتمعات المتخلفة، فحالة الطوارىء دائمة عندنا· أما في الديمقراطية العريقة فأمر مختلف، فهو دليل على أن "الحكومة المنتخبة" التي تعبر عن نبض الشارع، لم تستطع حل مشكلة متفاقمة المفترض أنها لم تكن قائمة في المقام الأول· وهي إشارة للمستثمر الأجنبي بعدم استقرار الأوضاع السياسية، وبالتالي فإن ذلك حتما سيؤثر على أسواق المال، وغيرها من التداعيات التي يضيق المجال التفصيل فيها·

وكانت  الشرارة التي أشعلت الاضطرابات الحالية مقتل شابين بالصعقات الكهربائية إثر تخفيهما من مطاردة الشرطة في محل للكهرباء بضاحية كلشي سو بوا القريبة من العاصمة· وهذه الضاحية هي مثال للمحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه قرابة خمسة ملايين من أصول مهاجرة جاء معظمهم من الجزائر والمغرب وتونس ومناطق غرب إفريقيا الأخرى· إذ تكتظ بشباب عاطل عن العمل البعض منهم حاصل على شهادات عليا، ومع البطالة تنتشر الجريمة والعنف والمخدرات وأنواع الرذائل الأخرى· أن تكون من تلك المناطق معناه أن فرصتك في العمل تقل عن زملائك من أبناء المناطق الأخرى بخمس مرات، ومعناه أيضا أن معاملة الشرطة ستكون غليظة أكثر بكثير من أقرانك الآخرين· إن منطقة كلشي سوا بوا وأمثالها، أماكن موبوءة - كما تشير جريدة كرستيان سينس مونيتور الأمريكية (11/4) - "لا تورث أصحابها إلا السمعة السيئة"! وهي مناطق بَنت الحكومة الفرنسية مساكن رخيصة فيها للمهاجرين على مدى الأربعين عاما الماضية لتخلق تجمعات سكانية استطاعت بسهولة أن تحتفظ بالشطر الأكبر من ثقافتها وهويتها الدينية وبالتالي أصبح عصيا عليها الاندماج في ثقافة المجتمع الكبير·

والمفارقة العجيبة أن سياسة النظام الفرنسي حيال المهاجرين الذين يرغبون البقاء فيها والتجنس بجنسيتها هو دمج هؤلاء في ثقافة المجتمع الفرنسي وصهرهم في نسيجه الاجتماعي لدرجة أن "الحكومة تحظر القيام بإحصاءات رسمية على أساس العرق أو الدين"· حسب إذاعة البي بي سي (10/31)· لكن شتان ما بين الشعار والواقع· فإذا  كان الآباء والأجداد قد ارتضوا بالقليل ولم يهتموا بالشعارات وكانوا يبحثون عن لقمة العيش، فإن الأبناء والأحفاد قد عاشوا في ظل تلك الشعارات وأعجبوا بها، لكنهم يرون أفعال الفرنسيين "الأقحاح" وتصرفات الحكومة فيتعجبون  منها!! يتذمر أحد أبناء هذا الجيل من هذا الوضع فيقول: "كيف يمكن أن أشعر بأنني فرنسي حينما يصفني الناس دائما بأنني فرنسي من أصل جزائري؟ لقد ولدت هنا· أنا فرنسي· كم يلزم من الأجيال حتى يكف الناس عن ذكر أصلي؟؟

وردة فعل أبناء أالجيل الجديد تختلف عما درج عليه آباؤهم من تحمل التمييز والسكوت عن التفرقة، فهؤلاء يرون في أنفسهم مواطنين فرنسيين بصفة أصلية على قدم المساواة مع أولئك الفرنسيين المنحدرين من قبائل القوط والوندال أو من سلالة شارلمان!! جال مراسل جريدة الواشنطن بوست (11/5) ضاحية لو بلان مسنيل المحاذية لمطار شارل ديغول الدولي، حيث التقى محمد رزوق حارس النادي الرياضي في المنطقة الذي أحرقه المتظاهرون· رزوق هذا على علم بمجريات الاضطرابات في منطقته أكثر بكثير من الأجهزة الأمنية الفرنسية - كما يكتب المراسل - حيث يذكر أن الذي يقومون بتلك الأعمال هم "أطفال حمالو مطار شارل ديغول وفراشو مدارس  المنطقة··· وهم بفعلتهم يقولون نحن هنا  نحن  موجودون"!!

ومقاومة المجتمع الفرنسي لاندماج أبناء المهاجرين قد ولد عند البعض الآخر شعورا قويا برفض الهوية الفرنسية وبُغض ذلك المجتمع علما أن تيارا أصوليا عاما يسود أبناء تلك المناطق· فها هو عبدالكريم الملقب بالقائد - كما يدعي في حيه حسب مراسل الإندبندنت البريطانية (11/6) - يصبح قائلا: "أنا أكره فرنسا، والفرنسون يكرهوننا"· وعبدالكريم ابن العشرين المنحدر من  أصول مغربية يعتاش على سرقة السيارات التي تدر عليه ألفي فرنك للسيارة الواحدة، وهو مستعد - مثلما يروي المراسل - أن يوفر كل شيء من البغايا الى الدي في دي مرورا بالحلي والجواهر!! أما تابعه كارم (15 عاما) فيرى المراسل صورا مخزنة في هاتفه الجوال وهو يضحك هي لأحد الشبان وهو يقطع رأس جندي روسي!! يقول القائد عبدالكريم: "من شرفتي هنا أرى برج إيفل· تلك هي باريس، أما هنا فإنها بغداد"!!

والمعضلة التي تواجهها فرنسا والمجتمعات الأوروبية الأخرى هي أنها  أصبحت في الوقت الحالي بحاجة إلى تدفق المهاجرين كما كانت حينما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها· فنظرة الشباب الأوروبي - كما يقول أحد علماء الأنثربولوجيا التي تورد الكرستيان سينس مونتيور رأيه (11/10) - للحياة السعيدة لم تعد تلك النظرة التي تتضمن وجود أطفال بها· وهذا ما تعبر عنه الأرقام الإحصائية حول الخصوبة والمواليد، فهي تشير إلى هبوط معدل المواليد بالنسبة لكل امرأة إلى 1.3 والمفترض أن يكون أعلى من 2.1 لكي يستطيع المجتمع تجديد سكانه· معنى هذا أن المجتمع الأوروبي والغربي عموما يشيخ وهو بحاجة إلى دماء جديدة تأتيه من الخارج· وإذا لم يفلح المجتمع الغربي في استيعاب هؤلاء القادمين الجدد في نسيجه الاجتماعي أو لم يتوصل إلى نظام  تعددي حقيقي فستظل هذه مشكلة تخمد لفترة ثم ما تلبث أن تتفجر مرة  أخرى·

إن الخروج من هذه الأزمة شأن أي أزمة اجتماعية يكون ضمن صراع القوى السياسية في المجتمع ومن "بيده الحل والعقد" ممن يملكون زمام الأمور في "الجمهورية الخامسة"· ويبدو أن الكاسب من هذه المعركة إلى الآن هو وزير الداخلية نيكولاس ساراكوزي، ابن مهاجر هنغاري وسليل أسرة أرستقراطية فيها بوصف جريدة النيويورك تايمز (11/3)، فبتصريحاته التي وصف بها شباب الأحياء الفقيرة المنتفضين "بالحثالة" فإنه كان يدغدغ مشاعر اليمين الفرنسي الرافض لوجود الأجانب، تطلعا للانتخابات الرئاسية في العام 2007!!

ولعل تفجر صراع الأقلية في المجتمع الفرنسي ووجود مثل تلك المشكلة في جميع المجتمعات الأوروبية المتطورة يعيد إلى الأذهان ما طرحه المفكر الأمريكي الألماني الأصل هربرت   ماركوز في الستينات من أقوى  التغيير في المجتمعات الغربية المتطورة سيعتمد على الأقليات والشباب والمرأة· وقد يفضي تحرك الأقليات في المجتمعات الأوروبية هذه الأيام إلى بعض التغيير في ملامح تلك المجتمعات·

 

 

alyusefi@taleea.com

 

�����
   

خاطرة سياسية واجتماعية:
علي غلوم محمد
امرأة تفجر حضارة!:
الدكتور محمد سلمان العبودي
"لا حل ولا هم يحزنون":
د.عبدالمحسن يوسف جمال
ثقافة العطاء!!:
سعاد المعجل
الحسم يا صاحب الحسم:
صلاح مضف المضف
سياسة النفس الطويل!:
مسعود راشد العميري
الله كريم:
يوسف الكندري
أحداث الضواحي الفرنسية:
كامل عبدالحميد الفرس
شعوب تحدق في السماء!:
فهد راشد المطيري
معطيات خليجية! :
عامر ذياب التميمي
انتفاضة على بوابات باريس :
د. محمد حسين اليوسفي
الفضائيات·· إعلان نعي لثقافتنا!!:
مشاري الصايغ
لا خير في الوطن·· إلا مع الأمن والسرور:
عبدالخالق ملا جمعة
كلام من ذهب:
عبدالله عيسى الموسوي
خاطرة سياسية واجتماعية:
علي غلوم محمد
الجعفري وغصن الزيتون:
فيصل عبدالله عبدالنبي