الأمم الحية والفاعلة في التاريخ الإنساني لم تعتبر يوما التاريخ مجرد أحداث عابرة في حياتها وإنما تعتبره مخزونها وعصارة تجاربها ورسالتها الى المستقبل ومن هذه الثوابت تمضي الخطوات وتبدأ الحسابات·
وتاريخنا عموما ثري بأحداثه غني بدروسه وعبره، ولكنه حبيس الكتب ينهل البعض منه بما يناسب قناعاته واتجاهاته بعيدا عن أي تحليل نقدي يهيئ لثقافة فاعلة ومتفاعلة مع روح العصر ومتطلبات الحضارة·
وثورة يوليو كانت حدثا مهما في تاريخنا الحديث لأنها ساهمت فعليا في صناعة ثقافة قومية تحررية تؤسس لوجود عربي فاعل على الأرض ولأنها انحازت بصدق للسواد الأعظم من الناس، فاجتهدت وعملت ما في وسعها لتحقيق أهدافها، فحققت بعض القفزات النوعية وتعثرت في بعضها وتجاوزت في بعض الأحيان، إلا أنها ظلت نظيفة اليد ونبيلة الهدف مستقلة القرار، وقد تركت بصمة واضحة في التاريخ يصعب تجاوزها وهذا ما دفع الشعوب العربية للالتفاف حولها بعفويتها وبصدق عواطفها·
لكل ثورة أهداف وهذه الأهداف تكون عادة استجابة لحاجة معينة وردا على واقع معين وأهداف ثورة يوليو جاءت ردا على واقع تلك المرحلة المحتضنة لكل ألوان الفساد السياسي وهذا ما دفعها الى إلقاء الأحزاب والاستعاضة عنها بشكل سياسي آخر يفي بمتطلبات التحرير·
بلا شك فإن التعددية هي اللبنة الأهم في بناء المجتمع الحديث وتجربة ما قبل الثورة لم تكن تجربة ذات مصداقية عندما عبثت تلك النخب السائدة بهذا المفهوم الحضاري وحولته الى لعبة انتخابية لتوطيد نفوذها ولتأكيد ولائها للقصر مما أعطى الانطباع بأن الديمقراطية التي جاء بها المستعمر هي لعبته لتثبيت نفوذه وتدعيم احتلاله، وإزالتها ضرورة من ضرورات الاستقلال الوطني·
قد نتفق مع هذا التشخيص حسب تلك المرحلة وقد نتفهم السبب وراء إلغاء هذه التجربة في حينها، ولكن لانجد عذرا لاستمرار الإلغاء بعدما ثبتت الثورة أقدامها وأمست رقما صعبا في المعادلة الوطنية وخصوصا بعد معركة تأميم قناة السويس، وتأكدت الحاجة الملحة الى إعادة إطلاق المسار الديمقراطي بعدما أضحى ضرورة من ضرورات العمل الوطني والقومي عندما فشلت تجربة الوحدة بين مصر وسورية لأن أهم سبب لفشلها هو عدم وجود إطار تنظيمي تعددي فاعل يعالج ثغراتها ويحميها، ومن هنا تأكدت الحاجة لتفعيل الحياة السياسية وقبول الاختلاف لكي تتأكد الثورة من سلامة بنيانها ولكي تحي نفسها من كل الخروقات التي أساءت إليها، والأهم من ذلك بأن الحقيقة ليست ملكا لجهة مهما عظم شأنها فالشعب بكل أطيافه هو القوة وهو المصدر والاختلاف لا يفسد للود قضية فهو كأنبوب الاختبار يستقبل المحاليل ويحتضن التفاعلات ويطرح الجديد·
هذا النقد لا ينتقص من قيمة الثورة لأننا ندرك الظروف المحيطة بها والتي جعلت منها وعاء للهموم العربية وسمة لحركة التحرر العربي ورقما مهما في المعادلة الدولية، وطبعا هذا العبء ساهم في تأجيل أي مراجعة نقدية لذاتها ولكن لم يعفيها من المسؤولية لأن الحرية تعني الاستمرارية وتعني الإنسان·
تجربة الثورة بمجملها تجربة مهمة توقفت رسميا واستمرت وجدانيا·· مهدت الأرضية وتعثرت في بعض البناء، استحوذت على التأييد الكاسح ولم تخلق الأداة·· أحداثها غنية والمراجعة مطلوبة لاستخلاص الجمل الفعلية وتوظيفها في خدمة مشروع النهوض العربي·
والسؤال المطروح ماذا بقي منها؟
لن نجيب بالعواطف بل بعقلانية وباختصار مفيد، هي موجودة بيننا طالما لم نحقق سيادتنا وهي موجودة بيننا طالما لم نحقق وحدتنا ولم ننجز مشروعنا القومي الحضاري، وهي موجودة طالما لم نخطوا باتجاه التنمية وباتجاه التكامل الاقتصادي العربي وهي بيننا طالما نحلم بأن يكون لنا مكانا تحت الشمس· |