إن الانتهازية تتلخص بالضبط في انعدام المبادئ المحددة فالانتهازيون لا دين لهم ولا مبادئ ثابتة لديهم وقد شكلت الانتهازية ظاهرة مرضية خطيرة ومزمنة في تاريخ العراق المعاصر فهم يرقصون مع كل راقص وينسجمون مع كل نظام إذا وجدوا أنه يحقق مطالبهم ويضمن مصالحهم ويلبي امتيازاتهم فإذا سقط النظام تبرؤوا منه وقفزوا في أحضان النظام الجديد، ولذلك نرى الانتهازيين وفي كل انقلاب وعقب كل تغيير نراهم يتصدرون المظاهرات المؤيدة مباركين للقائد الجديد واضعين أنفسهم تحت تصرفه ورهن إشارته وتنهال برقيات التأييد والمبايعة المطلقة للانقلابيين الجدد، وأصبح لتلك البرقيات صيغة واحدة معروفة في العراق ومثار تندر وسخرية المناضلين الحقيقيين وأبناء الشعب العاديين: "قل جاء الحق وزهق الباطل، سيروا ونحن من ورائكم!" بينما كانوا أنفسهم جزءا من ذلك الباطل و"الحق الذي جاء"! هو نوع آخر من الباطل ولكن قبولهم به وركوبهم موجته يتطلب مثل هذا النفاق والانتهازية ليبقوا على مناصبهم ويتمتعوا بالامتيازات والمكاسب ذاتها التي حصلوا عليها بالباطل ولينالوا المزيد من الانقلابيين الجدد ولتكن برقياتهم وتأييداتهم وتصدرهم لمظاهرات التأييد صكوك غفران وجوازات سفر وحسن سيرة وسلوك·
تجربة شخصية مريرة
ومثلما تجلت الانتهازية والانتهازيون في داخل العراق وعبر تاريخه المعاصر فإنها أيضا كانت في خارج العراق ولكنها انتهازية مميزة وانتهازيوها من طراز خاص، إذ ترك هؤلاء الذين تحولوا الى انتهازيين، تركوا العراق كمعارضين حقيقيين لنظام صدام حسين الدكتاتوري وهربا من قمعه وبطشه إلا أنهم وبقدرة قادر استطاعوا الحصول على وظائف وامتيازات كانوا يحلمون بها في العراق ووجدوا بحبوحة من رغد العيش، رواتب عالية وتجارة وسيارات فارهة وأرصدة في البنوك تتضخم باستمرار وسفرات سياحية وغير ذلك وحينها انسحبوا من مخاطر المعارضة وشقاء المعارضين ومخاطر النضال وبقي همهم الوحيد الحفاظ على سلامتهم الشخصية والامتيازات التي حصلوا عليها وجمدوا مواهبهم الإبداعية التي كانوا عليها وآثروا الصمت المطبق إزاء نظام صدام وممارساته الإرهابية والخوف الشديد ليس من النظام الصدامي هذه المرة بل من المعارضة والمعارضين وعلى مدى أكثر من 25 عاما كرست كل جهودي ورهنت كل طاقاتي الشخصية للعمل الإعلامي المعارض وإيجاد منبر وصوت إعلامي عراقي معارض في دولة الكويت والخليج عموما فكتبت في صحف "الطليعة" وما زلت وفي "القبس" و"نداء الرافدين" و"السياسة" ثم برنامج في إذاعة صوت الشعب العراقي وأصبحت بمثابة مركز إعلامي عراقي خصوصا بعد إصداري صفحة العراق المتخصصة في الشؤون العراقية في صحيفة "الرأي العام" والتي صدر عددها الأول في 18/5/1998 والتي كان لها الأثر الكبير والخطير في التحريض على نظام صدام وفضحه وإضاءة ما يجري في داخل العراق من مجازر وعمليات مقاومة، وكانت إنجازا كبيرا بشهادة كل قادة المعارضة العراقية الذين باركوا هذه الخطوة وشكروا دولة الكويت على السماح بإصدار مثل هذه الصفحة التي ليس لها نظير في كل الصحف العربية والخليجية والعالمية وسدت فراغا كبيرا وأصبحت مرجعا معلوماتيا وتحليليا لكل الباحثين والمراقبين وأصحاب القرار وكل ذلك بجهودي الشخصية الذاتية وبمساعدة ودعم الإخوة الأعزاء من الشعب الكويتي·
ولكن وبعد أن سقط نظام صدام بشهرين تقريبا خرج هؤلاء "المعارضون" الانتهازيون الجبناء من أبراجهم العاجية من الذين كنت أعرفهم شخصيا وكانوا يطردوني ويرفضون لقائي عندما كنت أحثهم وأطلب مساعدتهم وأن يناضلوا ضد نظام صدام لكن مفاجأتي عندما عرفت أن هناك أضعاف عدد هؤلاء والذين كنت لا أعرفهم وقد خرجوا الآن مباركين سقوط نظام صدام طالبين مساعدة الشعب العراقي دون خجل أو وجل وإلا أين كانوا عندما كان صدام يذبح شعبنا؟ الجواب لأنهم انتهازيون جبناء ووصوليون نفعيون وكما كتبت وحذرت منهم في مقالات سابقة نشرتها قبل سقوط النظام، تلك هي الانتهازية والانتهازيون في داخل العراق وخارجه·
طرائف وحقائق انتهازية!
· تقول الأسطورة العراقية: لقد احتدمت المعركة بين جيش القطط وجيش الفئران والجرذان والقوارض واشتد وطيسها وامتلأت ساحة المعركة بالدماء والجثث وانتهت بانتصار القطط على القوارض فذهب أحد الجرذان الانتهازيين الى الساحة تاركا برجه العاجي الذي كان يتفرج من خلاله على إحداثيات المعارك، دخل الى الساحة وأخذ يمرغ جسده بالدماء حتى أصبح أحمر ثم حمل معه جثة قط ميت ودخل قصر ملك القوارض ليعرض عليه جسده وجثة القط فأكرمه الملك وعينه نائبا له نظير شجاعته واشتراكه الفاعل في المعارك؟! هكذا هم الانتهازيون·
· أحد الانتهازيين أراد الانتماء لأحد الأحزاب فقيل له عليك دفع دينارين شهريا كاشتراك حسب النظام الداخلي للحزب لكنه انتفض قائلا: "كل الأحزاب التي انتسبت إليها لا يطلبون غير نصف دينار وفي أسوأ الأحوال 750 فلسا!"·
· ونشأت ونمت في عهد صدام فئات طفيلية انتهازية انتهزت ظروف الحروب والحصار فتاجرت بغذاء ودواء شعبنا العراقي وتهريب النفط والآثار والأموال والمخطوطات والنفائس وسبائك الذهب، عدد هائل من السماسرة والوسطاء وتجار السوق السوداء والاحتكاريين من العراقيين والعرب والأجانب استطاعوا أن ينهبوا بتلك الطرق الانتهازية البشعة الجشعة ملايين الدولارات وشملت تلك الفئات الطفيلية ساسة وسياسيين وصحافيين وغيرهم وتقدر المصادر الوثيقة عددهم بـ 26 ألفا أي مليونير أو ملياردير مقابل كل ألف عراقي (عدد نفوس العراق 26 مليون نسمة) وهي فئات طفيلية انتهازية خطيرة نحذر من أن يكون لها دور لأنه سيكون تخريبيا في بنية الاقتصاد العراقي الجديد لما تملكه من رؤوس أموال وسيطرة ونفوذ في التجارة والعقار والاستثمار والاستيراد والتصدير والتهريب ومن ولاء لنظام صدام الذي نشأت ونمت في عهده·
حقل مجنون·· عاد عراقيا
كنا قبل سقوط نظام صدام قد حذرنا في مقالات مستمرة كل الدول والشركات من عقد أي اتفاقيات وصفقات أو التصديق بأي عهود ووعود لنظام صدام وخاصة اتفاقيات الاستثمار في حقول النفط العراقية كحقل مجنون وحقل الأحدب وغيرها كان نظام صدام قد منح الامتياز بها وبشكل مجحف بحقوق العراق والعراقيين من أجل شراء مواقف سياسية انتهازية والضغط لإبقائه على كرسي السلطة وكان الصراع شديدا ومسعورا بين روسيا وفرنسا والصين واليابان ومع شركات عالمية أخرى·
وكتبنا بأن جميع تلك الاتفاقيات ستسقط بسقوط نظام صدام ولن يعترف بها شعبنا، لكن لا أحد يستمع لنا أو يصدق تحذيراتنا، وها هو الآن حقل مجنون النفطي العملاق يعود الى العراقيين دون غيرهم حيث أعلن السيد عاصم جهاد من شركة نفط الجنوب أن الشركة استطاعت وبكوادر وجهود عراقية بحتة إعادة العمل في الإنتاج النفطي لحقل مجنون وبطاقة أولية تصل الى 50 ألف برميل يوميا حيث تم استخدام مواد احتياطية موجودة وبدائل في مواقع نفطية مختلفة كحقل الرميلة الشمالي وحقل الرميلة الجنوبي وحقل كرمة علي وقد شملت عملية التأهيل ربط رؤوس الآبار وإنجاز العمل بـ 24 بئرا نفطية اللهم زد وبارك، وأضاف: أن العمل جار على قدم وساق في الحقل من أجل الوصول الى المرحلة الثانية وبطاقة إنتاجية تصل الى 100 ألف برميل يوميا·
hamid@taleea.com |