التطور سنة الحياة وكلما ازدادت الحاجة الإنسانية ازداد التطور تلبية لها وهذا ما يعطي الحياة صفة التجدد، وهذا التطور الطبيعي يصبح فيما بعد بطيئا وغير ذي قيمة إن لم تحدث نقلة نوعية تؤدي الى تغيير الذهنية والمفاهيم السائدة والدفع بها نحو التجدد لتلائم العصر، وهذه النقلة عادة ما يحدثها الفعل التاريخي مسبوقا بتمهيد فكري وفلسفي إضافة الى بعض العوامل الأخرى التي تحتم هذا الفعل، وهذه النقلة قد لا تكون بمستوى الطموح ولكنها مدخل مهم للتغيير·
ومراحل التاريخ مفعمة بالأحداث التي أدت بشكل أو بآخر الى تغيير النظم الحياتية وأيضا في آليات التفكير وأرست على الأغلب دعائم لثقافات جديدة أحدثت نهوضا ما في المجتمع، ولكن هذه الثقافات بمجملها لم تلغ حق الإنسان في الحياة وفي الدفاع عن وجوده وعن إنسانيته بل على العكس ظلت قضية الأرض والأمن هاجسا إنسانيا وقضية مقدسة عبر التاريخ والتي من خلالها تفجرت الصراعات الأكثر دموية في التاريخ، ومنطقتنا العربية هي بلا شك جزء من المنظومة العالمية تعرضت الى أحداث تاريخية ولكن لم يحدث فيها تغيير مهم على صعيد الفكر والمعرفة إذ ظل الاتجاه الفردي في التفكير هو السلوك الأهم في حياتنا بل وأصبح الطابع المميز لمنطقتنا حاكما ومحكوما حتى تحولنا الي مفرخة للاستبداد ومدرسة للإلغاء·
بلا شك أن المتغيرات العالمية أعطت الإجازة للقوة العسكرية لإحداث فعل تاريخي يفضي الى ترتيب الخريطة العالمية حسب أولويات المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى وكان لمنطقتنا حصة الأسد من هذا الفعل فكان تواجدا عسكريا احتلاليا تحت مسمى الحرية فأظهر بجلاء حجم الهشاشة والهزال في جسم النظام العربي وحجم الاستكانة في إرادته مما دفع الى تنشيط الدعوات الى إجراء تغييرات جوهرية في بنية النظم وفي بنية التفكير إضافة الى دعوات العقلانية والواقعية في التعامل مع الظرف الحالي·
بالطبع إن التغيير ضرورة حياتية بل ووجودية لأن الكائنات التي انقرضت هي التي عجزت عن التطور والتأقلم مع المستجدات البيئية· ودعوات الإصلاح والتغيير قد نبهت لها بعض القوى على الساحة العربية ولكن دعواتها تبددت في صخب الضجيج الشعاراتي حتى وصلنا الى هذه المرحلة والتي لم يعد ينفع معها أي حل إن لم يستهدف العقل وطبيعة التفكير لأن التجدد لا يأتي من الفكر الشمولي ولا من ثقافة الهزيمة والتي تمددت مفرداتها باسم الواقعية حتى وصلت إلى حد وصف مقاومة المحتل إرهابا مع التحفظ على بعض الأساليب والاحتلال تحريرا ومشاريع طمس الهوية والوجود كمشروع الشرق الأوسط الكبير نهوضا، وإلغاء السيادة وقبول التبعية والهيمنة والابتزاز عقلانية·· إلخ، من هذه المفاهيم التي تفاقم المشكلة وتزيد المأزق الوطني ولا تؤسس لنهوض فاعل لأن الآتي ليس جمعية خيرية أو هيئة إنقاذ بل محتل وهذا يؤسس لثقافة الهزيمة أكثر منها الى الواقعية لأن العجز الوطني لا يبرر التبعية وإزالة الذات·
بالتأكيد نحن مع كل أشكال التحديث والتطور وإعادة الاعتبار للإنسان ولدولة المؤسسات والمشاركة الفاعلة في النظام العالمي الجديد ولكن هذا التوجه لا يبرر لعاقل مباركة ما يحدث من تدمير وقتل وإبادة وتهديد للمنطقة كرد فعل على فشل النظام العربي، فالمراهنة على الخارج لتحقيق قفزة نوعية لن تحقق أكثر ما تحقق والواضح أنه أي الخارج ليس أكثر من فك مفترس يهدف الى ابتلاع المنطقة وتفتيتها تحقيقا لمصالحه فقط، ويبقى الخيط الوطني المطالب بالتغيير رغم ضعفه أرحم بكثير من تلك الحبال الخارجية التي جاءت للقيد وكسر الإرادة أكثر منها لنصب أشرعة الحرية·
|