الانفعال حالة إنسانية تؤدي الى فقدان السيطرة على السلوك نتيجة لحدث مؤثر أو لموقف متوتر مما يفقد معها الإنسان الاتزان والهدوء، فتنقلب الكلمات وتضيع الحقائق بل تتشكل رواسب يصعب إزالتها ناهيك عن الآثار النفسية المترتبة على ذلك·· ومن هنا ينشأ في أكثر الأحيان الافتراق ممزوجا بالعداوات فتتحول النفوس الى أرضية خصبة لامتصاص كل مشاريع الفتنة والإلغاء···
هذا على الصعيد النفسي أما على صعيد الدول والسياسات فيأخذ التوازن الدور الأكبر في سلوكها وذلك لضرورات الأمن والسيادة وتحقيقا للمصلحة العامة·· وأي اختلال في التوازن أو في ضعف الرؤية يقوض دعائم الدولة ويقلص دورها·· ودول العالم الثالث ضليعة في الاختلال لغياب دور المؤسسات·· وهي أقرب للمزرعة منها للدولة·· وينسحب الأمر على أكثر النخب الفكرية والثقافية لدينا·· إذ تراها عبر وسائل الإعلام المختلفة بئرا في التحليل وحبرا في تفكيك الرموز وما خلف السطور ولكن ما إن يلامس الحدث سترة أحدهم حتى تنفلت أزراره وتظهر معها كل العيوب والعورات المتوارية عن الأنظار، وكأن العقلانية لم تصادفه·· وكثرة انتشارهم في وسائل الإعلام يعطي الانطباع بأننا أمة خالية من العقلاء وأن هذه النخب الموتورة هي ملح ثقافتنا وفكرنا·· ناهيك عن خطورة التركيز عليها ومباركة تأجيجها لكل الفتن والأحقاد دون حساب وتحت مسمى الديمقراطية مما يهدد الاستقرار ويصبح معها الوطن فضاء لكل الألعاب المسلية والخطرة·
ولبنان الجمال والثقافة والمتخم بالنخب على اختلاف مشاربهم·· لم يخل عبر تاريخه من العقلاء والحكماء ونافذي البصيرة والمعول عليهم دائما وفي الظروف الصعبة خاصة التوعية وضبط الجنوح وتقديم المساعدة في تصويب القرار·· لأن دعائم الاستقرار فيه غير مضمونة في ظل نظام طائفي مدستر وغير قابل للحياة من دون غطاء خارجي إضافة الى تحديد زعامة على حساب مشروع الدولة ولدرجة الانفلات وما تتركه من آثار سلبية على الصعيد الداخلي والخارجي، ناهيك عن تأثير الارتباكات الخارجية وتغيير المسارات باتجاه الأقوى على الأمن والسلم الأهلي·· ومن هنا تأتي أهمية دور العقلاء ووجودهم في الحياة السياسية لرأب الصدع وتقريب وجهات النظر وتحقيق التوازن·· وما نراه الآن من سخونة الحراك وتسارع في الأحداث يقلق الجميع ومؤشر غير صحي على مجمل الأوضاع فنخب التصدع تتسيد الأجواء وتستغل كل لحظة وتمسك بكل فاصلة ونقطة لترفع وتيرة الاحتقان وتدفع بمركب الوطن الى المياه الدولية ليعود رقعة للعبة الأمم·· وبورصة للمصالح الدولية·
قد لا يختلف اثنان على أن المرحلة الحالية التي يعيشها لبنان في رحلة بحث عن الحقيقة بل عن الحقائق لن توصله إليها لأنه في زحمة الصخب والضجيج الإعلامي وفي ظل الهيمنة الدولية الجديدة والتي لا تتحرك إلا وفق رؤيتها·· تنزوي الحكمة··· وينسحب المنطق وتضيع الحقيقة ويصبح ظهورها رهنا للمساومات والاتفاقات·· وإن ظهرت فهي غير ذات مصداقية بل فاقدة للأهلية·· لأن خروجها لن يكون إلاّ من رحم المصالح والتسويات·· والجرائم السياسية عادة ما تكون غامضة ومن الصعوبة كشفها مهما تحرفنت التحقيقات لأنها تكون أقرب للجريمة الكاملة لدقة تنفيذها ولوقوف أطراف متشابكة المصالح خلفها، وكثير منها ظل غامضا حتى الساعة ولم يتم الكشف عنها·· ولذلك يبقى التعويل على الإرادة الدولية بل الأمريكية في كشف الحقيقة ضربا من السذاجة·· لأن طمس الحقائق وتلفيق التهم وزرع الفتن من آداب النظام العالمي الجديد وتجربة العراق خير دليل· |