ما من حركة أو ثورة إلاّ ولها أرضية فكرية أو مطالبية تستند إليها كمبررات لقيامها وتوضيح لهويتها، وفي التاريخ نماذج كثيرة وباتجاهات مختلفة فمنهم من قلب التربة ومنهم من رطّبها ومنهم من صحّرها وتحت مسميات حضارية مختلفة·· وما نحن بصدده هو تلك الحركات المصابة بالانفصام التي صبغت واقعنا بألوانها الزاهية وعبدت طرقنا بشعاراتها الملتهبة ولكنها أفرغت الشعوب وألحقتها بمسيرتها المظفرة التي أتعبت الوطن وجعلته كمريض الإيدز يسقط من نزلة برد ويصدع من لفحة شمس·
تلك مقدمة بسيطة لواقع عربي مرير لم يحدث أن وصلنا إليه من قبل عبر تاريخنا رغم الهجمات الاستعمارية المتعاقبة على المنطقة لأن مناعتنا الوطنية كانت تغطي مساحة الضعف واختلال التوازن، أما الآن فلا نحن كرعايا قادرون بأدواتنا السلمية على وقف التدهور الوطني ولا منع الخطر الخارجي لأننا منزوعو المواطنة·· ولا التركيبة السلطوية المزمنة قادرة على الفعل يسدّ منافذ الخطر لأن قوتها برمجت أصلا على مقاس الشعوب وليست على قوة العدو وهذا ما يفسر سرّ البقاء·
منذ عقود ونحن نحلم يوما في إزالة كابوس الطوارىء الذي فرض من غير طارىء وعودة الحياة المدنية إلى مسارها ولكن هذا الحلم تبدد شيئا فشيئا عندما صمم بناء الوطن على مقاس الطوارىء فأصبحت قممه وثقافته وكل أدبياته من هذا النسيج حتى بتنا لا نشعر بآثاره على حد وصف أحد الأكاديميين·· وطبعا هنا تكمن المشكلة ألا يشعر الإنسان بالدمار الذي لحق به من جراء سياسة ما خاصة إذا خلّفت وراءها سلبيات يصعب إصلاحها من دون أثمان إضافة إلى عامل الزمن·· وتصعب أكثر عندما تكون الخسائر بالعقل والإرادة·
فهاهي أجيال الطوارىء قد أفرغت وغذيت بكل نزعات التخلف من الطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية إضافة إلى بعثرة كل قوى الاستنهاض وإلغاء مفهوم الدولة وحظر الأطياف وتقديم الهواجس الأمنية على الهموم الوطنية وتوسيع مساحة الحظر لتشمل حتى الأنين مع تشجيع التلوث بكل أشكاله إلى أن وصلنا إلى مرحلة الأكسدة·· فتأكسدت كل الخطط - إلا الأمنية منها - وتدنت السلوكيات إلى حد اتهام الممسك بخيط الاستقامة بالغباء والجنون·· وهذه الأدبيات بمجملها شكلت لدينا دولة "اللادولة" بدستور من قيم "الملهم" وبشموخ مستمد من ألقابه الحسنى وبوجود مرتبطات ببقائه وبمستقبل مرهون بنجاح ألعابه وخطوط أوراقه وتكتيكاته·· وهذه الثقافة أنجبت أجيالا لا تعرف سوى عبادة الفرد طريقا لتقدمها·
أمام هذا الوضع القائم المبني على الغياب الكامل لمفهوم الدولة المدنية يقف البعض مدافعا عن دولة الطوارىء ومؤكدا شرعيتها واعتبارها دولة مدنية بدليل وجود سلطات ثلاث - بضم السين - إضافة إلى الهيئات المدنية المختلفة من أحزاب، جمعيات، نقابات·· إلخ وأن كل الدول الديمقراطية تقوم على هذه الأسس·
قد نتفق معهم تجاوزا على مدنية الإطار ولكننا لا نختلف كثيرا على عسكرة المضمون لأن هذه الأطر تشكلت وخرجت من رحم الطوارىء ولم تكن نتاجا لدولة المؤسسات ولذلك سيبقى دورها أمنيا وستبقى عرضة للإجهاض وللموت السريري عند كل امتحان، ناهيك عن أن مصطلح المؤسسات والمجتمع المدني هو مصطلح مدني وليس أمنيا أي يعني الخصوصية والاستقلالية باتخاذ القرار، وليست ملحقة بدوائر الطوارى القائمة على السيطرة والإفراغ وطبعا لابد من التذكير بأن دستور دولة الطوارىء قائم على التفرد في قيادة الدولة والمجتمع على مبدأ "أنا الكل والكل أنا" فأين دولة المؤسسات وأين الديمقراطية من هذا المفهوم؟!·
ويبقى السؤال الأهم: هل تعلم هذه القوانين درجة خلال ظلاميتها على كيان المجتمع؟؟!! يقيني هي تعلم ذلك بل وسعت منذ صدورها إلى تمهيد الأرضية للوصول إلى هذه الحالة ظنا منها أن "الحكم المطلق لا يسود إلا بالغياب المطلق" وللأسف فقد سادت حالة اللامبالاة لأكثر قضايا الأمة أهمية حتى أصبحت فلسفة لكل المعضلات وبالتالي أضحى بيتنا أو هن من بيت العنكبوت·· يقابل ذلك عجز تام عن الإصلاح نتيجة لاستحكام قوى الضباب بكل المواقع·· قد ندفع الثمن غاليا·· ولكن لا أتمناه سقوطا· |